د. أحمد محمد القزعل
تفتح سوريا بعد سقوط نظام الأسد صفحة جديدة مليئة بالأمل والطموح، حيث يتطلع السوريون إلى بناء وطن يعكس تطلعاتهم نحو الحرية والكرامة والازدهار، فبعد سنوات طويلة من الحرب والمعاناة يمتلك الشعب السوري مقومات تاريخية وثقافية واقتصادية وفكرية تجعله قادراً على تجاوز الأزمات وتحقيق الوحدة الوطنية، وصولاً إلى بناء الدولة الحديثة التي تقوم على أسس العدالة والمساواة.
وعلى مر العصور أثبت السوريون قدرتهم على النهوض بعد الأزمات ورغم الخراب الذي خلفته آلات القتل الأسدية، فإن إرادة الشعب السوري في إعادة إعمار الوطن قوية صلبة وواضحة، ويمتلك السوريون مهارات متميزة في مجالات متعددة كالتجارة والصناعة والزراعة والعلوم، وهي مقومات تتيح لهم إعادة بناء بلادهم بسرعة وفعالية خاصة إذا توافرت لهم بيئة سياسية واجتماعية مستقرة، فالتاريخ يشهد أن السوريين لا يستسلمون للمحن بل يحولونها إلى فرص للتجدد والانطلاق من جديد، كما فعلوا في مواجهة الاحتلال عبر العصور حين توحدوا دائماً للتخلص من الظلم وإعادة بناء وطنهم، وإن مستقبل سوريا يعتمد بشكل أساسي على قدرة أبنائها على تحقيق الوحدة الوطنية وتعزيز التعددية الثقافية والدينية التي تميزها، والتي ينبغي أن تُعتبر مصدر قوة وغنى لا سبباً للفرقة والانقسام، ولطالما كان الشعب السوري العريق نموذجاً للتعايش السلمي في كل الحقب التاريخية، ولعل تحقيق المصالحة الوطنية بين جميع مكونات المجتمع السوري سيكون المفتاح الحقيقي للاستقرار والازدهار، ومن هذا المنطلق يصبح من الضروري تبني رؤية وطنية موحدة تجمع جميع السوريين حول هدف مشترك وهو بناء الدولة العادلة التي تقوم على تطبيق القانون واحترام الحريات وصيانة حقوق جميع المواطنين.
هذا ولقد كان للسوريين عبر التاريخ دور بارز في مختلف المجالات، فقد ساهموا في تشكيل الحضارات الإنسانية منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث، كما كانت سوريا مهداً لعدد من الحضارات العريقة مثل الآرامية والفينيقية والآشورية، وكما أسهم السوريون في تطوير الأبجدية الأوغاريتية التي تعد من أقدم الأبجديات في التاريخ حيث تم العثور على هذه الأبجدية مكتوبة على نقوش مسمارية صغيرة «ألواح طينية» في القصر الملكي في أوغاريت، الذي اكتشف عام 1948؛ ووفقاً لعلماء الآثار فإن نظام الكتابة الأوغاريتية هو أقدم نظام كتابة أبجدي رقمي في العالم، كما ساهم الشعب السوري في نشر التجارة والثقافة عبر البحر الأبيض المتوسط، ويقول المفكر ويل ديورانت «لقد قدمت سوريا للبشرية أعظم هدية يمكن أن تُمنح، وهي الأبجدية التي كانت أساس العلم والمعرفة»، وكما يقول العالم فرانسوا شامبليون: «لولا الكتابات والآثار التي تركتها الحضارات السورية القديمة، لظل التاريخ الإنساني ناقصاً»، وكان للسوريين إسهامات كبيرة في مجالات العلم والفكر والفقه حيث برز منهم علماء كبار مثل ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى، كما كانت دمشق عاصمة لأعظم دولة إسلامية عرفتها البشرية وهي الدولة الأموية، وفي العصر الحديث قدم السوريون مساهمات مهمة في حركات التحرر الوطني، حيث قاوموا الاستعمار الفرنسي وكانوا في طليعة النضال من أجل الاستقلال والحرية لوطنهم، ورغم التحديات الكبيرة التي واجهتها سوريا في العقود الأخيرة يواصل السوريون اليوم لعب دورهم الفاعل في مجالات العلوم والفنون وريادة الأعمال، سواء داخل البلاد أو في الشتات، مؤكدين أن دورهم الحضاري لم يتوقف، بل يستمر في إثراء الإنسانية بمساهماتهم في مختلف الميادين.
حقيقة إن مستقبل سوريا بعد سقوط نظام الأسد يحمل بين طياته فرصاً كبيرة للتغيير الإيجابي، ورغم أن الطريق سيكون محفوفاً بالتحديات، فإن تاريخ الشعب السوري وشجاعته يؤكدان قدرته على تجاوز العقبات وبناء دولة حديثة ومزدهرة، ومن الضروري أن يتكاتف جميع السوريين لتحقيق هذا الهدف من خلال نبذ الطائفية والعمل المشترك لإعادة إعمار الوطن، كما أن الاستثمار في طاقات الشباب المتعلم والمثقف سيكون عاملاً حاسماً في ضمان مستقبل أفضل للبلاد.
وفي النهاية يمتلك الشعب السوري الإرادة والعزيمة لإعادة بناء دولته وتحقيق الوحدة الوطنية رغم كل الصعاب، فالتاريخ يشهد على إنجازاته وقدرته على التحدي، ليعود مجدداً ويضيء العالم بإبداعاته وحضارته العريقة.