د. عبدالحليم موسى
كانت الكلمات التي تصدَّرت مناقشة رسالة ماجستير الباحث محمد الصباطي بجامعة الملك فيصل، من الأستاذ الدكتور عبدالله الرفاعي، خيوط أملٍ ومفاتيح استشهادٍ بما وصلت إليه الصحافة بكل أبعادها ومراحلها الزمنية: التي حركت لديَ مكامن الغيرة تجاه هذه المهنة؛ عندما نجد نظرية حارس البوابة، تصارع الأعاصير للوصول إلى بر الأمان؛ في هذه الرحلة التطويرية التي تشهدها «السلطة الرابعة» في ظل الذكاء الاصطناعي وهيمنته على المحتوى الإعلامي إعداداً وصياغة ونشراً؛ لأروي عندها عطش قلمي الذي ينسال مداده ليكتب ما يدور في خلدي وتمليه مشاعري إنصافاً لهذه النظرية.. الركن الإعلامي الأقوى والشريان النابض في عملية تمرير المعلومة أو حجبها. نظرية حارس البوابة «Gatekeeping Theory» ليست مجرد نظرية إعلامية تقليدية؛ بل تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية عميقة تتعلق بسلطة التحكم في المعلومات، وتشكيل الوعي الجماعي؛ فمع تأثير التكنولوجيا على إبراز الحقيقة وإيصال المعرفة في عصر الذكاء الاصطناعي ومواقع التواصل الاجتماعي؛ أصبحت هذه النظرية أكثر تعقيدًا وإثارة للتفكير الفلسفي.
وللتعمق في هذه الجوانب بشكل أكثر معرفة وإيضاحاً.. فكان في الماضي «حارس البوابة» إنسانًا «محررًا، صحفيًا، أو منتجًا إعلاميًا» يقرر ما يجب أن يصل إلى الجمهور، وكانت هذه السلطة مركزية وواضحة؛ مما سمح بمساءلة الحراس وفهم دوافعهم؛ أما اليوم؛ تحولت هذه السلطة إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تعمل كحراس غير مرئيين، ولا تملك هذه الخوارزميات وعيًا أو نوايا؛ لكنها تعكس تحيزات المطورين والبيانات التي تم تدريبها عليها. تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بإنشاء «واقعٍ موازٍ» لكل مستخدم بناء على اهتماماته وسلوكياته، ويوجد ذلك تعددية في الحقائق؛ حيث يصبح الواقع نسبيًا ويعتمد على ما تختاره الخوارزميات؛ إذا كان كل فرد يعيش في فقاعته الخاصة.. فهل يمكننا الحديث عن «حقيقة واحدة»؟! أم أن الحقيقة أصبحت مجرد بناء اجتماعي يتشكل من خلال التكنولوجيا. لقد كانت في الماضي القريب؛ مسؤولية التحكم في المعلومات تقع على عاتق المؤسسات الإعلامية، واليوم تنتقل هذه المسؤولية إلى الشركات التكنولوجية التي تدير منصات التواصل الاجتماعي، وغالباً ما ترفض هذه الشركات تحمل المسؤولية الكاملة؛ مدعية أن الخوارزميات محايدة.. إذا كانت الخوارزميات تتحكم في المعلومات دون وعي؛ فهل يمكن أن نعتبرها «محايدة»؟! أم أن التحيزات المضمنة فيها تجعلها أداة لتعزيز السلطة والهيمنة!!
الذكاء الاصطناعي لا يتحكم فقط في تدفق المعلومات، بل يؤثر أيضًا على كيفية تفكير الناس وتشكيل آرائهم؛ من خلال ترشيح المحتوى الذي يمكن للخوارزميات أن تعزز أفكارًا معينة وتهمش أخرى.
وتقدم منصات التواصل الاجتماعي مساحة واسعة لحرية التعبير، وتتحكم في نفس الوقت فيما يراه المستخدمون؛ مما يوجد تناقضات بين الحرية والتحكم، ومع تطور الذكاء الاصطناعي، قد يصبح مفهوم «حارس البوابة» قديماً؛ وأتوقع بدلاً من ذلك، سنشهد خلال الفترة القادمة ظهور أنظمة لا مركزية تتحكم في المعلومات بشكل ذاتي؛ في عالم تهيمن عليه الخوارزميات في المعلومات؛ لتصبح معه هويتنا ومعرفتنا مرتبطة بشكل وثيق بما تختاره لنا هذه التكنولوجيا.
ندرك أن نظرية «حارس البوابة» لم تعد مجرد نظرية إعلامية؛ بل أصبحت مرآة تعكس تحولات عميقة في فهمنا للسلطة، والمعرفة، والواقع نفسه، فنحن في عصر الذكاء الاصطناعي أمام تحديات فلسفية وأخلاقية تتطلب إعادة تفكير جذرية في كيفية تعاملنا مع المعلومات والتكنولوجيا.
يقدم العديد من المفكرين المعاصرين رؤى عميقة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي وتأثيره على البشرية؛ حيث يذهب يوفال نوح هراري، مؤلف كتاب «Homo Deus» منتقداً الذكاء الاصطناعي واصفاً إياه بالخطر الحقيقي الذي سيطور وعياً خاصاً به، لأنه سيصبح أداة قوية في أيدي النخب التي تستخدمه لتعزيز هيمنتها على المجتمع. أما إيلون ماسك مؤسس شركة Tesla وSpaceX، فيحذر من مخاطر الذكاء الاصطناعي غير المنضبط قائلاً: الذكاء الاصطناعي هو أكبر تهديد وجودي للبشرية إذا لم يتم تنظيمه بشكل صحيح. نحن نلعب بقوى لا نفهمها تمامًا.
بينما ينظر إليه بتفاؤل، عالم المستقبليات والمخترع الأمريكي ريموند كورزويل الذي يرى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون قوة إيجابية؛ وبحلول عام 2045، سنصل إلى نقطة التفرد التكنولوجي، حيث سيتجاوز الذكاء الاصطناعي الذكاء البشري؛ وهذا يمكن أن يؤدي إلى عصر جديد من الازدهار والإبداع.
في خاتمة المطاف فإن نظرية «حارس البوابة» في عصر الذكاء الاصطناعي تدفعنا إلى التساؤل في عالم أصبحت فيه التكنولوجيا هي الحارس الذي يقرر ما نراه وما لا نراه. هذه الأسئلة ليست تقنية فحسب، بل هي أسئلة وجودية تمس جوهر الإنسان وعلاقته بالمعرفة والواقع.