محمد بن عيسى الكنعان
بينما كان بعض الفلسطينيين يحتفلون باتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة (حماس) باعتباره نصرًا لغزة والمقاومة بشكل عام؛ استنكرت إحدى السيدات الفلسطينيات هذا الاحتفال، متسائلةً عن تبريره في ظل سقوط آلاف القتلى والجرحى، بل ذكرت أن أولادها استشهدوا في هذه الحرب.
هذه المفارقة الشديدة، أو الثنائية المتضادة بشأن حرب (7 أكتوبر) أو عملية (طوفان الأقصى) بين فريق يعتبره انتصارًا، وآخر يعتبره انتحارًا عكست جانبًا من انقسام الشارع العربي والفلسطيني تحديدًا؛ بسبب المواقف المتعارضة للنخبة المثقفة والطبقة السياسية على القنوات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي. فنخبة تراه نصرًا مبررةً ذلك بأن إسرائيل لم تُحقق أهدافها بالقضاء على المقاومة وبالذات حركة (حماس) على الرغم أنها قضت على قادتها، بل وافقت على إطلاق أسرى فلسطينيين في سجونها، كما تؤكد تلك النخبة أن المقاومة دمرّت إرادة البقاء لدى إسرائيل بحجة مغادرة مليون إسرائيلي (من مزدوجي الجنسية) إلى خارج إسرائيل، ناهيك عن مئات الشركات التي أوقفت نشاطها، وهي - على كل حال - أرقام لم تؤكدها جهات محايدة. على النقيض تمامًا؛ يرى آخرون أن الخسارة الأكبر لحقت بالجانب الفلسطيني؛ نظرًا لحجم القتلى والجرحى والتدمير الشامل لقطاع غزة، فالإسرائيليون الذين غادروا دولة الكيان الصهيوني لم يفقدوا عائلاتهم، أو تُهدّم بيوتهم، أو يخسروا أموالهم، إنما شعروا بعدم الأمان بشكل مؤقت، ولا يُستبعد عودتهم مرة أخرى إذا استقرت الأمور، إنما الكارثة في تلك الأرقام المروعة للجانب الفلسطيني، بمقتل أكثر من 46 ألف شهيد، وإصابة أكثر من 110 آلاف بين جريح ومصاب، ونزوح مليون و900 ألف فلسطيني من قطاع غزة، وتدمير أكثر من (85 %) من البنية التحتية للقطاع، إلى جانب 400 ألف مسكن تضرر، وتعطل 33 مستشفىً، وتضرر المساحات الزراعية بنسبة تقارب (90 %)، ناهيك عن حياة السكان بلا كهرباء أو وقود، وبلا أمن غذائي بنسبة تتجاوز (80 %)، وبلا مياه نظيفة بنسبة تقارب (90 %). هذا التعارض في الحكم على ما جرى في غزة على مدار 16 شهرًا يُبرهن على أن النخب الثقافية والسياسية العربية - فضلًا عن شعوب المنطقة - لم تستطع أن تُحدد بوصلة الوعي لإدراك واقعنا العربي وفق موازين القوى الإقليمية المرتبطة بالمحاور الدولية الكبرى، ومن ثم يمكنها أن تحدد مفهوم النصر في هذه الحرب أو تلك، وهو ولا شك مفهوم شائك! فهل يُقاس بتحقيق الأهداف؟ أم في حجم الخسائر؟ أم في قائمة التنازلات؟ وعليه فعندما بدأت حركة (حماس) هجوم (7 أكتوبر) هل كانت تهدف إلى إجبار إسرائيل على إطلاق الأسرى الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين الذين خطفتهم؟ لكن الثمن كان باهظًا بأعداد القتلى الفلسطينيين! أم كان قصدها فكالحصار عن قطاع غزة الذي دام سنوات حتى تحول القطاع إلى سجن كبير؟ لكن القطاع لحقه دمار كبير وشامل! أم كان قصدها جرّ إسرائيل إلى حرب - وإن كانت غير متكافئة - تؤدي إلى ضرب الأمن الداخلي الإسرائيلي، وبالتالي يفقد المواطن الإسرائيلي شعوره بالأمان؟ لكن ماذا عن المواطن الفلسطيني الذي فقد كل شيء! أم كان قصدها تأكيد وجودها - كحركة مقاومة - وفاعلة على الأرض الإسرائيلية؟ بدلالة خروج عناصرها بشكل لافت وكبير خلال عملية إطلاق الأسرى بين الجانبين؟ أم كان القصد هو ضرب كل الجهود العربية والدولية الرامية إلى (حل الدولتين)؟ وهذا بالطبع يتفق مع التوجهات الإيرانية التي تعمل على السيطرة والنفوذ بالمنطقة العربية من خلال ورقة المقاومة، غير أن هذا السعي الإيراني - ودون توخي العواقب - جاء بنتيجة عكسية عندما أدت حرب غزة إلى تقليم النفوذ الإيراني بدايةً بـ(حزب الله).
عمومًا أيًا كان السبب، الإشكال في الإبادة الجماعية التي حلت بالشعب الفلسطيني في غزة من واقع حجم الخسائر المهول! على حساب المواطن الفلسطيني، الذي فقد عائلته، وبيته، وتم تهجيره. والمفارقة أن من يُسميّ ما جرى في غزة نصرًا، و(7 أكتوبر) يومًا مجيدًا هو ذاته من وصف ما حصل بالإبادة الجماعية، التي لابد أن تتوقف! وهنا معضلة الوعي العربي بين الانتصار والانتحار.