محمد عبدالحميد السطم
«إذا سألتني من أي دولة تستلهمون سورية الجديدة سأقول من رؤية 2030 للمملكة العربية السعودية». بهذه الكلمات أجاب وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على سؤال حول مستقبل سورية الجديدة في منتدى دافوس الاقتصادي، وجاء هذا التصريح امتدادا لتصريحات سابقة عبر فيها رجال الإدارة الجديدة وعلى رأسهم أحمد الشرع عن إعجابهم برؤية 2030 ورغبتهم في نقلها إلى سورية الجديدة.
هذه التصريحات تعكس نية حقيقية لدى المسؤولين السوريين في الانفتاح على فرص جديدة لبناء مستقبل مستدام يتمحور حول تعزيز التنوع الاقتصادي والابتكار وهو ما نجحت المملكة العربية السعودية في تحقيقه من خلال رؤيتها الطموحة. لم تكن رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رؤية اقتصادية تقليدية بل كانت خطة استراتيجية متكاملة تهدف إلى إحداث تحول شامل في مختلف المجالات من خلال التركيز على التنوع الاقتصادي والتنمية المستدامة مما جعلها رؤية متميزة تسعى لإرساء أسس قوية للمستقبل، ولذا لم يكن من المستغرب أن يستلهم المسؤولون السوريون تلك الرؤية فهم يعبرون عن طموحهم في تحقيق نهضة مماثلة تسهم في تعزيز استقرار سورية الداخلي، وإعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية بما يتماشى مع المعايير العالمية الحديثة متأملين أن تجد سورية طريقها إلى الازدهار والتقدم معتمدة على دروس مستفادة من تجربة المملكة التي استطاعت أن تحقق قفزات نوعية رغم التحديات الجسيمة.
رؤية 2030 تحول إستراتيجي ورؤية طموحة
تعد رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عام 2016 تحولا استراتيجيا محوريا في تاريخ المملكة، إذ تتجاوز كونها مجرد خطة اقتصادية إلى مشروع شامل يهدف إلى إعادة رسم مشهد جديد للمملكة عنوانه التنمية وتهدف هذه الرؤية إلى تقليل الاعتماد على النفط، وتعزيز القطاعات غير النفطية كالسياحة والتكنولوجيا مما يجعلها خارطة طريق نحو مستقبل مزدهر.
لم تكن الرؤية مجرد خطة تحفيزية بل جاءت ضمن جهد استراتيجي بعيد المدى يركز على بناء بنية تحتية متطورة وإعداد بيئة اقتصادية تنافسية ومبتكرة مع تمكين القطاع الخاص ليكون المحرك الرئيسي للاقتصاد، إضافة إلى تركيزها على تحسين جودة الحياة للمواطنين، وزيادة مشاركتهم في سوق العمل، وتعزيز دور المرأة في مختلف المجالات كما تتضمن الرؤية مشروعات ضخمة مثل نيوم ومشروع البحر الأحمر التي تعكس التوجهات المستقبلية للمملكة.
استندت الرؤية على ثلاثة محاور أساسية كان المواطن السعودي الركيزة الأساسية فيها كما عبر ولي العهد بالقول: المواطن نصب أعيننا وهو عماد وغاية رؤية 2030. لذلك كان التركيز ابتداءا على تطوير الإنسان السعودي، وتعزيز جودة حياته من خلال تحسين التعليم، وتطوير المهارات، والرعاية الصحية، وتوفير بيئة مشجعة على الابتكار، وتوسيع الفرص للمرأة من أجل المشاركة الفاعلة في مختلف القطاعات وهو ما يشكل مجتمعا حيويا متماسكا، واستجابة لمتطلبات تلك الغاية كان التنوع الاقتصادي المحور الثاني للرؤية أو ما يعبر عنه بالاقتصاد المزدهر الذي يهدف إلى تقليل الاعتماد على النقط من خلال تنويع مصادر الدخل، وتعزيز مختلف القطاعات غير النفطية كالصناعة والتكنولوجيا والسياحة والطاقة المتجددة وعملت الرؤية على تحسين بيئة الأعمال، وجذب الاستثمارات المحلية والدولية مما يسهم في تحقيق النمو المستدام، وزيادة فرص العمل، وأخيرا تمثل المحور الثالث بالوطن الطموح الذي تسعى المملكة من خلال رؤيتها. إلى الحفاظ على مكانته الإقليمية والدولية استنادا على الابتكار والتطور التكنولوجي إلى جانب تحقيق المزيد من الشراكات الاستراتيجية مع دول العالم. من خلال هذه المحاور تشكل الرؤية خارطة طريق متكاملة لتحقيق مستقبل يعكس تطلعات القيادة والشعب السعودي.
نحو نموذج سوري مستوحى من رؤية 2030
مع تولي الإدارة الجديدة زمام الأمور في دمشق باتت الحاجة إلى البناء الشامل أولوية ملحة تتطلب نهجا جديدا يواكب التطورات العالمية، ويخرج البلاد من أزمتها العميقة. لم يعد الاقتصاد السوري قادرا على الاعتماد على حلته القديمة وأساليبه التقليدية بل بات بتطلب رؤية حديثة تتبنى تنويع مصادر الدخل، ودعم القطاع الخاص، وتوفير بيئة تنافسية قادرة على جذب رؤوس الأموال المحلية والدولية. من هذا الإطار برزت الرؤية السعودية 2030 كنموذج ملهم يحتذى به فالمبادئ التي انتهجتها المملكة تشكل خارطة طريق يمكن للسوريين نقلها مع الأخذ بالاعتبار خصوصية التحديات التي تواجهها بلادهم، ولعل التحدي الأبرز في هذا الإطار هو إعادة الإعمار ولكن للنهوض حقا انطلاقا من التجربة السعودية الملهمة يجب أن لا تكون عملية إعادة الإعمار مجرد بناء ما دمرته الحرب بل أن يكون الهدف إحداث تحول تنموي مستدام، ويكون ذلك عبر إنشاء رؤية وطنية واضحة، كما فعلت المملكة بتحديد رؤيتها تحتاج سورية إلى رؤية مماثلة تحدد أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية لعشرين عاما قادمة بحيث تشمل البنية التحتية الحديثة التي تتماشى مع المعايير العالمية بدلا من مجرد إعادة ما كان موجودا، إضافة إلى العمل على تنويع الاقتصاد، فكما نجحت المملكة بتنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد على القطاع النفطي على السوريين انتهاج هذا النهج والتخلي عن الاعتماد على القطاعات التقليدية وتنشيط المجالات الأخرى كالقطاع السياحي مستفيدين من موقع سورية الجغرافي وإرثها التاريخي.
أحد أهم أسرار نجاح رؤية 2030 هو فتح المملكة الباب أمام الاستثمارات الدولية وتعزيز الشراكات وهو ما يمكن تبنيه في الحالة السورية عبر خلق بيئة استثمارية جذابة من خلال قوانين مرنة، وحوافز ضريبية، وضمانات الحماية المستثمرين، إضافة إلى تمكين القطاع الخاص فتحفيز الشركات المحلية ومنحها دورا في التنمية الاقتصادية يشجع المستثمرين على الدخول إلى السوق السوري كما أن إطلاق المشاريع الاستثمارية الكبرى والمناطق الاقتصادية الحرة على غرار مشروع «نيوم» و «البحر الأحمر» ليست كفيلة فقط في جذب المستثمرين بل في تسهيل الشراكة الاستراتيجية مع الشركات العابرة للقارات في مختلف القطاعات ولا شك أن هذا النوع من الشراكات يمكن أن يوفر تدفقات مالية ضخمة وتطور في القطاع الرقمي والخبرة الإدارية.
يعتمد نجاح أي مشروع اقتصادي على الموارد البشرية المؤهلة والمدربة، وكان هذا جوهر رؤية 2030 حيث ركزت على بناء القدرات البشرية وتطوير التعليم والتدريب المهني في سورية يمكن نقل التجربة، وتحسين التعليم، وتطوير المهارات التقنية لتأهيل جيل قادر على الابتكار وفي حقل البحث العلمي والتعليم العالي ركزت المملكة على إنشاء شراكات مع مؤسسات أكاديمية عالمية، وتطوير مراكز البحث العلمي ويمكن للسوريين استثمار هذا النموذج مما يسهم في حلول مستدامة في مختلف القطاعات، وفي مجال تمكين المرأة قدمت المملكة نموذجا عمليا تمثل في دعم مشاركة المرأة في سوق العمل حتى في المجالات غير التقليدية مثل التكنولوجيا، والهندسة، ويمكن أن تحاكي سورية هذه التجربة عبر توفير حوافز لدخول المرأة في المجالات المتنوعة مما يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوسيع قاعدة العمل.
ختاماً..
لا يختلف اثنان في أن رؤية 2030 تشكل نموذجا رائدا في مجال التنمية المستدامة يحاول السوريون تلقفه، وتطبيقه للنهوض ببلدهم الذي أهلكته الحرب ساعين إلى بناء مستقبل واعد، ورغم التحديات الجسيمة التي تواجه البلاد يظل الأمل قائما في أن المملكة بما حققته من إنجازات ونجاحات ستكون شريكا فاعلا في مساعدة الشعب السوري على بناء بلده من جديد، ومن خلال التعاون مع المملكة يمكن لسورية أن تستفيد من الخبرات الفريدة التي تمتلكها في تشكيل اقتصاد متنوع و مزدهر وتطوير قدرات الإنسان السوري ورفع معيشته مما يسهم في تحقيق تحول شامل، ومستدام يقود إلى ازدهار سورية الجديدة ويضمن مكانتها على خريطة التنمية العالمية.