د.حادي العنزي
خلق الله آدم من تراب الأرض الذي خُلط بالماء فأصبح طينًا لزجًا مُتماسكًا، ثم تحوَّل إلى صلصالٍ كالفخار. وبعد اكتمال جسده، نفخ الله فيه الروح. وخلق حواء من ضلع آدم، وهذا الخلق يحمل رمزية عميقة عن العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث يشتركان في الأصل والمصير.
كانا ينعمان في الجنة، ويأكلان منها رغدًا باستثناء شجرة معينة. وسوس لهما إبليس وحثهما على الأكل منها، وقاسمهما أنه لهما من الناصحين، وأن الأكل من الشجرة المنهي عنها سيجعلهما خالدين أو يمنحهما مُلكًا عظيمًا!
نزلا بأمر الله إلى الأرض، وتناسلا بين ذكرٍ وأنثى. عمرا الأرض، وظهرت حضارات، وسادت أمم وزالت أخرى. والأيام تتعاقب بين شمسٍ وضحاها وقمرٍ إذا تلاها، وبقيت ذرية آدم في صراع مع الجني إبليس وأتباعه من شياطين الإنس والجن إلى يومنا هذا وحتى تقوم الساعة.
كانت مهمة الشياطين، إنسهم وجنهم، عسيرة وشاقة، وجهادهم في غواية الإنسان عظيمًا وبالغ المشقة؛ فقد كان الإنسان الأول مُتمسكًا أكثر بفطرته النقية، حريصًا على القيم الربانية والأخلاق السامية، لكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، أثمرت جهود الشياطين وصبرهم الطويل، فأصبحت تتراجع القيم وظهر الفساد في البر والبحر، حتى تمدد سلطانهم، واستفحل شرهم بظلامٍ يخنق نور الحياة، ويفسد فطرة الإنسان.
ولأن الشياطين كائنات مُفكرة، مُخططة ومحترفة، فقد راجت في فضاء الإنسان واحتنكت ذريته إلا قليلاً منهم. كما استغلت أدواته المختلفة وشاركته أعماله المهنية بدءًا من عمليات الجمع والالتقاط، مرورًا بالزراعة والتجارة، وكذلك الصناعة بأسلحتها وحروبها وشرورها، وصولاً إلى التكنولوجيا واستغلال (بعض) مكوناتها في نشر الفساد وتنصيب (بعض) شياطين البشر في إدارة الفساد واستيراده وتصديره ثم تدويله بين الناس على أنه التقدم والحضارة، وأنه مستقبل الإنسان الذي يختزلونه في أربع مكونات - برأيي - هي القوة؛ حيث يتم تسويق القوة والسيطرة على الآخرين كهدف نهائي للحضارة، ويركزون في ذلك على النفوذ السياسية والعسكرية والاقتصادية كمعيارٍ للتقدم.
وكذلك الثروة التي تتمثَّل في الماديات والاستهلاك؛ إذ يرون أن النجاح يتمحور حول امتلاك الثروات والتمتع بالاستهلاك المفرط، وهذا يؤدي إلى تهميش القيم الأخلاقية والروحية.
بالإضافة إلى الشهوة (الإغراء والمتعة)، واعتبارها جزءاً أساسياً من الحياة الحديثة، لنشر شيء من البهيمية وإضعاف القيم العائلية والأخلاقية.
كما أنهم يدفنون مستقبل الإنسان في التكنولوجيا التي تُعد أداة لتحقيق السيطرة من خلال استغلالها لنشر الأفكار والهيمنة على العقول، وتسهيل ما يرغبون تمريره للعالم.
وما اعتمادهم على استخدام المقاطع القصيرة في نشر المحتوى إلا تعزيزًا للاستهلاك المفرط، ورمزًا للتسطيح والرغبة في تشويه السياقات، وإضعاف جودة النقاشات، والتركيز على الإثارة بدلاً من القيمة، وتعميق الإدمان على الترفيه السريع.
ومع هذا الوجه السلبي، فإن التكنولوجيا تحمل إمكانيات هائلة إذا استُخدمت بشكل صحيح. على سبيل المثال، التطبيقات الدينية؛ تُعد من أبرز الأمثلة على استخدام التقنية لنشر القيم الإيجابية، حيث تشيـر الإحـصـاءات إلـــى أن (64 %) من المسلمين يستخدمون التطبيقات الدينية يوميًا، وهذا يعكس قوة التكنولوجيا في تعزيز القيم الروحانية السليمة.
قصة البشرية ليست مجرد صراع بين الخير والشر، بل هي ملحمة إنسانية متكاملة تجمع بين التطور والقيم؛ فالتقدم المادي والحضاري ليس عدوًا للأخلاق والفضيلة، بل يمكن أن يكون حليفًا قويًا لها إذا أحسنَّا توجيهه؛ لأن التكنولوجيا والتقدم المادي محايدان في جوهرهما؛ يكتسبان صبغتهما من نيَّات مستخدميهما وغاياتهم.
في عصرنا الحالي، نشهد تحولاً جذريًا في طريقة تفاعل الإنسان مع التقنية، فالأدوات الرقمية التي نمتلكها اليوم تحمل في طياتها إمكانات هائلة للخير والنفع العام. وعبر شاشات الهواتف الذكية، تصل آيات القرآن الكريم إلى ملايين المسلمين، ويتعلَّم الناس دينهم وثقافتهم، ويتواصلون مع أحبابهم، ويشاركون في أعمال الخير والإحسان.
منصات التواصل الاجتماعي، على الرغم من أنها أداة مزدوجة الاستخدام، أثبتت قدرتها على أن تكون منبرًا لنشر الحكمة والمعرفة، وبعض المنصات تقدِّم محاضرات تعليمية وأفكارًا ملهمة، تُظهر أن التكنولوجيا يمكن أن تكون جسراً للتعلّم. وفقًا لدراسة حديثة فإن (74 %) من مستخدمي الإنترنت يتابعون محتوى تعليمياً على منصات التواصل الاجتماعي، مما يعزِّز فكرة أن هذه المنصات يمكن أن تكون أداة للتعلّم الإيجابي إذا استُخدمت بشكل صحيح.
المسؤولية الكبرى تكمن في توجيه هذه الأدوات الحديثة نحو ما ينفع البشرية؛ فالتربية القيمية يجب أن تواكب التطور التقني، وعلينا أن نغرس في نفوس أبنائنا القدرة على التمييز بين النافع والضار، وتعليمهم كيفية استخدام التكنولوجيا بتوازن ومسؤولية. تُعد تجربة فنلندا في التعليم نموذجًا عمليًا يُحتذى به، إذ تجمع بين التعليم التقني وغرس القيم الأخلاقية مثل التعاون والاحترام. ووفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023، يُصنَّف نظام التعليم الفنلندي الأفضل عالميًا بسبب دمجه بين التقنيات الحديثة والقيم الإنسانية، ومع ذلك، يجب مراعاة أن لكل مجتمع منظومته القيمية الخاصة، والتي قد تختلف في رؤيتها للمثالية بين الثقافات، فما يُعتبر مثاليًا في مجتمع مثل فنلندا قد لا يتطابق تمامًا مع مجتمعات أخرى، مثل مجتمعنا في المملكة العربية السعودية. العبرة تكمن في إيجاد التوازن بين التعليم التقني والقيمي بما يتناسب مع خصوصية كل مجتمع.
ولعل من أهم التحديات التي تواجهنا اليوم هو كيفية استثمار التكنولوجيا في نشر القيم الإيجابية. مشاريع مثل Google Arts الجزيرة Culture، التي تعرض التراث الثقافي عبر الإنترنت، تُعد مثالاً على كيفية إحياء التراث بطرق عصرية. وفقًا لتقرير صادر عن اليونسكو عام 2022، فإن (75 %) من الشباب يفضِّلون التعرّف على تراثهم عبر الوسائل الرقمية، وهذا يؤكد أهمية التقنية في تعزيز الهوية الثقافية.
علينا أن نتذكر دائمًا أن التكنولوجيا وسيلة وليست غاية، وأن الغاية الحقيقية هي بناء إنسان متوازن، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويستطيع أن يوظِّف ما أنتجه العقل البشري في خدمة القيم الإنسانية النبيلة، فقد أصبحت المجتمعات وعلى امتداد الكرة الأرضية تعاني من صعوبة تربية الأبناء على طرق الاستخدام الأمثل للتقنية الحديثة. وكم نحن بحاجة إلى منظومة تربوية متكاملة تجمع بين تعليم المهارات التقنية وغرس القيم الأخلاقية!
يجب أن ندرك أن التحول الرقمي الذي نعيشه اليوم يمكن أن يكون فرصة ذهبية لإحياء قيمنا وتراثنا بصورة عصرية جذابة؛ فالمنصات الرقمية يمكن أن تكون نافذة نطل منها على العالم، ونقدم من خلالها نموذجنا الحضاري المتميز، بحيث نشارك (فعلياً) في بناء حضارة إنسانية تحترم التنوع الفطري السليم وتحافظ على الهوية.
إن قدرتنا على تحقيق التوازن الدقيق بين متطلبات العصر وقيمنا الأصيلة؛ ستُحدد نجاحنا في مواجهة التحديات وتؤكد مكانتنا بين شعوب العالم في المستقبل.