فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
محمد الصديق الصدوق ورفيق العمر، ما أجمل ذكريات الشباب وما أنقى وأصفى وأدوم ذكريات الدراسة وأنا في طريقي للمسجد للصلاة عليه مودعاً استعدت أعوامًا جمعتنا بين أحضانها سعادة ومحبة وعطاء، ولم أقل حينها - وأنا راض بقضاء الله وقدره - إلا ما يرضي الله: مردداً قول الحق سبحانه وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
نعم، كان قدره أن يختار إلى جواره روحا طيبة لإنسان خير خدم وطنه وإنسانه، قائماً بمسؤولياته بما يرتقي إلى تطلعات قيادته وأكثر.
أنا ومحمد بن فهد بن عبد العزيز كان كل منا يعرف الآخر. لكن ما قربنا أكثر هو الفصل الدراسي الأول إعدادي بمعهد العاصمة النموذجي، عندما انتقلنا من معهد الأنجال بالناصرية فقد كانت البداية الحقيقية لما يقارب الستين عاما، حيث جمعتنا طاولة الدراسة والملعب. والمقهى. وكان أكبر منى قليلاً، ولكنا - برغم فارق السن القليل - كنا قريبين كمجموعة، كان أكبرنا المغفور له - بإذن الله - الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز، ثم الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز، والأمير فهد بن سلطان بن عبد العزيز، والأمير سعود بن فهد بن عبد العزيز، والأمير سلطان بن فهد بن عبد العزيز أصغرنا، وكنا نجتمع معظم الأوقات بعد المدرسة، خصوصاً في ليالي نهاية الأسبوع في منزل الملك فهد - يرحمه الله - لمشاهدة الأفلام السينمائية المستأجرة من محل (البلجون) والفيلم يكون مسجلا على عدة (بكرات وبعد الانتهاء من مشاهدتها تتداول كل (بكرة) بين عدة بيوت وتجمع (بكرات) الفيلم في آخر بيت لإعادتها لمحل البلجون.
كانت مشاهدة الأفلام بهذه الطريقة هي التسلية الرائجة مساءً حينها. أما بعد العصر، فكنا نستقل سياراتنا على طريق خريص، ثم تجتمع أحياناً عند بعض العصارات (القهاوي) مثل: (عصارة جهينة في شارع المطار أو الوزارات أو (عصارات شارع الخزان)، وأتذكر أن من الهوايات التي جمعتنا في ذلك العمر هو الاستماع واقتناء آخر الأغاني على الإسطوانات الـ 45 الملونة لتشغيلها في جهاز البيك أب) بالسيارة، وكان هناك محل أشرطة التسجيل الصوتي في شارع الخزان يسمى كل شيء سبعة، وصاحبه كان صديقا لنا، وقد زادنا قربا منه تسميته المحلة لتحمسنا للرقم 7.
كما كانت تجمعني به الروح الرياضية فقد كنا نشارك في الألعاب الرياضية سواء في الحصص الرياضية أو في معهد التربية الرياضية المجاور: حيث كان يرحمه الله من أبرز لاعبي كرة اليد. كما أتذكر كيف كان يحضر إلينا مندوبو الأندية الرياضية لاستقطاب المواهب وكان منهم نادي الشباب.
جمعتنا الإجازات الصيفية التي كنا نقضيها في مدينة (لندن) لتعلم اللغة الإنجليزية، كانت من أجمل الأيام حيث كنا نتطلع إلى نهاية الأسبوع لنجتمع وتذهب إلى مدينة (الملاهي) التي كانت تبهرنا بألعابها المتطورة قياساً بما كنا نعرفه حينها.
كذلك جمعتنا الغربة عندما سافرنا إلى الولايات المتحدة الأميركية في أواخر الستينيات لإكمال دراستنا الجامعية، كان الأمير محمد - يرحمه الله والإخوان في مدينة (سانتا باربرا) بولاية كاليفورنيا، وكنت أنا في مدينة سان فرانسيسكو) بنفس الولاية، وكنا نجتمع معظم نهايات الأسبوع كما تعودنا على هذا الاجتماع في المملكة ونقوم برحلات جميلة، ومن أجملها التي لا تنسى الرحلة التي دعانا لها سيدي الأمير أحمد بن عبد العزيز عندما جمعنا عنده في مدينة ريد لاندز (Redlands) لنتوجه إلى الصحراء مروراً بمدينة إنديو (India) عاصمة التمور بكاليفورنيا، وأقمنا فيها عدة أيام مخيمين في صحراء كاليفورنيا التي ذكرتنا بالوطن الغالي.
هذه الغربة قربتني أكثر من المغفور له بإذن الله - عندما زرتهم قبل سفرهم إلى المملكة لقضاء إجازة الكريسماس). وكان الوقت في رمضان المبارك اجتمعنا للصلاة والسحور في بيت المغفور له بإذن الله الأمير فيصل بن فهد، وبما أنني قررت في ذلك العام أن أقضي الإجازة مع أصدقائي الأمريكيين وعوائلهم كتجربة أشارك فيها احتفاءهم واحتفالهم بهذه المناسبة. وكنت في انتظار استلام سيارة تسمى (Marcos). وقد جمعني مع الأمير محمد عشق للسيارات، فكان لديه سيارة (2+2 Jaguar E type ) وقرر أن يتركها معي لأستمتع بها فترة الإجازة. تقبلت بفرح الطالب هذه المبادرة وسعدت أني سوف أتمتع بإجازة أقود فيها هذه السيارة النادرة بأمريكا في ذلك الوقت. وكان قدر الله أقرب وهو ما قربني ممتناً لتوفيق الله وتقديره بالأمير محمد، وأن ترتبط بصداقة العمر، حيث ودعتهم بعد السحور لأعود بتلك السيارة مستمتعاً بقيادتها إلى مدينة سان فرانسيسكو). وبعد مسافة تذكرت أني نسيت جواز سفري لديهم فعدت إليهم وأشاروا علي أن أبقى وأواصل رحلتي في اليوم التالي، لكني أصريت أن أعود لمدينتي، وكان قدر الله أقرب فبعد ساعة من رحلتي بالقرب من بلدة صغيرة تسمى (Santa Ynez) قفزت السيارة بعدما غلب على النعاس من الطريق السريع إلى وادي بعمق أكثر من مائة متر وتحطمت ونجوت من الحادث بأعجوبة إلاهية لم تفسر إلى اليوم.
نقلت إلى المستشفى في غيبوبة لم أصح منها إلا بعد أيام معانياً من كسور في الكتف والأضلع، وشقوق في الرأس والرئة، وكان أول ما فتحت عيناي عليه هو رؤية صديق العمر محمد بن فهد واضعاً يده الحانية على رأسي. وقد أجل رحلته، وكذا خالي الأمير أحمد بن عبد العزيز الذي حضر من مدينته، والأمير فيصل بن فهد، والزملاء فيصل بن محمد بن خالد بن حثلين وعبد الرحمن السماري اللذين لازماني طوال بقاني بالمستشفى، والصديق إبراهيم موصلي من سفارة خادم الحرمين الشريفين جزاهم الله خير الجزاء. ولن أنسى لهم ذلك التفضل. كذلك لن أنسى فضل سيدي وخالي الأمير تركي بن عبد العزيز الذي لولاه لتغيرت حياتي حيث أخبر (الملك) الأمير فهد آنذاك - رحمهم المولى جميعاً وأمر بإحضار أفضل الأطباء في أمريكا لتفادي قطع يدي من الكتف، وعلاج المشاكل الصحية التي أبقتني ما يقارب الشهرين على ظهري معلقا بما يسمى بـ (sling). كانت هذه التجربة الصعبة التي جعلتني بين الموت والحياة، من أكثر التجارب المؤثرة التي كتبها المولى لي وازداد معها رابط الألفة والمودة بيني وبين محمد بن فهد.
دارت الأيام ونمت معها أواصر المحبة والصداقة والأخوة وعشق سرعة القيادة والسيارات، فأهداني أجمل وأول لامبورجيني (Countach) بأمريكا كما أهديته (The XY7 Countach) بالمسمى المفضل لديه، عشق السيارات والرقم 7 جمعنا. فالأمير محمد جامع ومقتني لأجمل وأندر السيارات، وكان من أول الداعمين في المملكة لسباق سيارات الفورمولا واحد F1 في السبعينات تحت شعار (البلاد).
بعد عودتي للمملكة أيام الطفرة الأولى أصر على أن أفتتح مكتبا تجاريا، وأجاري الركب للربح من خيرات المشاريع المتاحة للمواطنين في بناء وإعمار بلدهم. كان أول مكتب افتتحته بمشورته تحت مسمى (السابعة للتقنية والتجارة وكان أول مشروع أحصل عليه بدعمه ومشورته يرزقه المولى الرحمة والغفران.
دارت الأيام مع دورة الأعمال، لكني لم أواكب الحراك الدائر في تلك الغابة. كان تفكيري منصبا على مشاريع مستقبلية، وكان تركيزي على الحلم الذي قدمته للملك خالد - يرحمه الله- عن فكرة إنشاء مجموعة للتفكير.
استقرينا في المملكة، وكانت تجمعنا ليالي جميلة مع الأصدقاء. ورحلات صيفية خارج الوطن، إلى أن انشغلت بالعمل الوظيفي بجدة بمنطقة مكة المكرمة، وتسلم سموه عمله أميراً للمنطقة الشرقية، فكان محمد شرقاً وأنا غرباً، ولكنا لم تفترق : فقد جمعتنا روح الذكريات الجميلة دائماً، وربطتنا روح وسط جزيرة العرب عاصمتنا الرياض الحبيبة. مرت الأيام وكان لي عدة زيارات للمنطقة الشرقية بمناسبات مختلفة مع زملاء وأصدقاء، سواء تراثية أو اجتماعية، وكان كرم وضيافة سمو الأمير في كل مرة أساساً في برامج زيارتنا.
رحل إلى جوار ربه محمد الصديق، وها أنا أكمل يرافقني الشعور بنقص كبير الكثير من الذكريات التي عشتها وعايشتها مع المغفور له - بإذن الله - غمرني خلالها في كل لقاء بوافر المحبة وصدق المشاعر، ورباط الإخوة والاحترام. كانت زيارتي له والأخيرة من عدة أسابيع في منزل أخي الأمير سلطان بن فهد بعد عودته من رحلته الاستشفائية بعد العملية التي أجراها في الورك قابلني بابتسامة من الروح، وغمرني بمشاعر من القلب، وبادلني الحديث بأصدق الكلمات الأخوية متذكرين فيها أياما وأياما نسجتها بيننا خيوط المحبة النقية الصادقة لتنعكس تلك الصورة على آخر لحظات ودعته فيها، وهو يصر على أن يقوم من مجلسه لإيصالي إلى سيارتي هو وسمو الابن الحبيب الأمير تركي بن محمد بن فهد، وكأنه يودعني للمرة الأخيرة: لم يكن هناك بيننا طوال عشرتنا أي تكلف.
أخي وصديقي رفيق العمر: أسأل الله الرحيم رب العرش العظيم أن يجعل قبرك خير منزل تنزله. ويطيب مدخله، ويجعلك من ورثة جنة النعيم.
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) )).
((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)).