عادل علي جودة
أكاد أجزم بأن السواد الأعظم مثلي انتابته «هستيريا الضحك» حينما عبر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السيد دونالد ترامب عن اعتقاده بأن الحل الأمثل - أو ربما الوحيد - لمشكلة الشعب الفلسطيني في غزة، يتمثل في تهجيره إلى مصر، والأردن، ودول أخرى!
لقد وجدتني أقهقه وأنا أهمس داخلي قائلًا «أي حلٍّ، أو تصريحٍ، أو هذيانٍ، هذا يا سيادة الرئيس»، أيعقل أن يخطر هكذا رأي على فكرٍ سياسيٍّ يمتلك أدنى قدر من أبجديات الوعي السياسي؟! أيعقل أن يمرَّ حلٌّ كهذا على شعب لم تنل منه ولا من صموده وصبره (إسرائيل) وحلفاؤها من الدول الكبرى بقيادة بلادكم؟!
ألم تشهد سيادة الرئيس حجم الدمار الذي أحدثه نتنياهو المطلوب دوليًّا بوصفه مجرم حرب - على امتداد الخمسة عشر شهرًا من هجمة شرسة جرَّب خلالها كل أسلحتكم الذكية والمحرمة دوليًّا؟! ثم ألم تشهد ذاك الطوفان البشري الممتد من جنوب قطاع غزة إلى شماله - في إطار صفقة وقف إطلاق النار التي كانت لك اليد الطولى في تطبيقها، أو لأقل ذلك المشهد المهيب لهذا الشعب العظيم في رحاب عودته إلى بيوتٍ جدرانها الصبر، وسقفها السماء، ومدادها الصمود والإباء وهزيمة الأعداء؟! ألم تسمع أصواتهم وهم يهتفون: «عودةُ اليوم هي العودةُ الصغرى نحو (غزة)، و(جباليا)، و(بيت حانون)، و(بيت لاهيا)، وغدًا، بحول الله وقوته، ثم ببسالة الأبطال، وبصبر الشعب الفلسطيني وثباته، سيحين موعد العودة الكبرى صوب (إسدود)، و(المجدل)، و(الرملة)، و(اللد)، و(يافا)، و(أم الفحم)، و(الناصرة)، و(حيفا)، و(عكا)، وأيضًا (صفد)، و(القدس)، و(كل فلسطين).
ألم تدرك يا سيادة الرئيس أن شعب غزة قدم ما يزيد على خمسين ألف شهيد غير أولئك الذين مازالوا تحت الركام، وما يزيد على مائة وعشرين ألف مصاب، في تصديه ومقاومته لهذه الهجمة المسعورة أو بالأحرى لحرب التطهير العرقي والإبادة الجماعية بكل ما تعنيه الكلمة، من قِبَل ما يُسمى (إسرائيل) التي قتلت البشر، ودمرت الحجر، وأحرقت الشجر، مستعينة في كل ذلك بأسلحتكم، وجنودكم، وقنابلكم، وطائراتكم، ومستشاريكم، وخبرائكم؟! ومع ذلك لم يرضخ شعب غزة ولم يتنازل عن شبر من أرضه أو ذرة من ترابه.
أيعقل أن تمارس هذا التنمُّر الإعلامي على شعب يملؤه الإيمان بأن القوة لله وحده، وأنه لن يضره الأشرار ولو اجتمعوا، وأنه بحول الله عصي على الانكسار برغم كل ما تعرض له من ظلم واستبداد على امتداد ثمانية عقود من القهر والحرمان، بل يزداد لديه اليقين في كل حين أنه بحول الله وقوته لا محالة عائد إلى أرضه التي هُجِّر منها في كل أنحاء فلسطين؟!
أتدري سيادة الرئيس؛ واعذرني إذ أنقل إليك تساؤل طفلة ربما لا تتجاوز السنوات الخمس من عمرها تقول لك فيه: «مرحباً عزيزي ترامب؛ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، معك الطفلة ماريّا حنّون من غزة، بدي أسألك سؤال بتمنَّى يوصلك وتجاوبني؛ أنا كطفلة ناجية من حرب غزة لو طلبت منك تخرج من بيتك ومن أرضك وتعيش في مصر أو الصين، هل توافق؟»، ثم أردفت مبتسمة، «أنا آسفة على ضحكتي، بس بالحقيقة أنت مش رح توافق، يعني بترفض، طيب ليش بدك تخليني أنا أقبل بخروجي من بيتي ومن أرضي؟» ... ثم تواصل قولها: «نصيحة يا رئيس العالم؛ اتْحكّمْ بكل العالم إلا بغزة، لأنه غزة هيَّ العالم».
أرأيت سيادة الرئيس؛ هذا الشعب لن يغادر غزة، ولن ينكسر أو ينهزم، والراية الوحيدة التي سيرفعها، إنما هي الراية الشاهدة على قيام دولته الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة على أرضه وهوائه، وبحره وسمائه، طال الزمان أو قصر، هذا ليس قولي وحدي، إنما هو قول أُمَّةٍ تنبض بعشق غزة وفلسطين، وتترقب أن تكتحل عيونها برؤية قبلتها الأولى؛ المسجد الأقصى المبارك.
وفي إطار هذه الأمــة جــاءك الرد المصري، والرد الأردني، بالرفض القاطع لما أطلقته من هُراء بشأن تهجير أهل غزة، وكذلك توالت ردود الرفض إليك من مختلف القوى العربية والإسلامية، ومن مختلف الفصائل الفلسطينية، وها هو أمام عيني الرد الشافي الوافي من الشقيقة الكبرى لفلسطين التي يحلم حليفك بتطبيع علاقاته معها، أعني «المملكة العربية السعودية»، إذ جاء تأكيد خارجيتها على أن موقفها من قيام الدولة الفلسطينية موقف راسخ ثابت لا يتزعزع، وأنه ليس محل تفاوض أو مزايدات، مشددة على رفضها القاطع للمساس بحقوق الشعب الفلسطيني سواء من خلال سياسات الاستيطان، أو ضم الأراضي الفلسطينية، أو السعي لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه التي سيظل متمسكًا بها ولن يتزحزح عنها، وأن السلام الدائم والعادل في المنطقة بأسرها لا يمكن تحقيقه دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.
وبدوري، سيادة الرئيس، أضم صوتي لصوت الإعلامي العربي الكبير الأستاذ خالد المالك؛ رئيس تحرير جريدة الجزيرة السعودية، مستعينًا بالله سبحانه وتعالى أولًا، ثم بأنفاس كل ذي قلب حي، أنه إن كان لابد من التهجير، فالأحق به هم اليهود الذين جاؤوا من كل حدب وصوب ليسرقوا أرض فلسطين، وحضارتها، وتراثها، وتاريخها، ومؤكدًا أن فلسطينيي غزة سيقفون شامخين في وجه أي قرار يرمي إلى تهجيره من أرضه أيًّا كان مصدر القرار؛ أمريكيًّا، أو بريطانيًّا، أو غير ذلك، ومدركًا تمام الإدراك أن على كاهله تقع مسؤولية البقاء في قطاع غزة، ويعلم أنه إن غادرها فسيكون المسؤول عن الحلقة الأخيرة ليس فقط في سلسلة حلقات الاستعمار الصهيوني لكل فلسطين، إنما أيضًا في سلسلة أحلامه المتمثلة في إقامة دولته الكبرى على كامل التراب الفلسطيني، وعلى تراب المنطقة المحيطة، فالشعب الفلسطيني في غزة وفي كل فلسطين، سيادة الرئيس، يدرك كل ذلك، وسيواصل بذل الغالي والنفيس في رحلة الصمود والثبات والجهاد حتى استرداد حقوقه المشروعة كاملة غير منقوصة بحول الله وقوته.
وكذلك سيادة الرئيس، أضم صوتي لصوت الشاعر العروبي الأشم عليان العدوان؛ رئيس «اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين» الذي أشرف بالانتماء إليه، إذ أبرقَ لفخامتكم بيانًا يحاكي لسان الكل الفلسطيني، والعربي، والإسلامي، وأحرار العالم، معبرًا باللسان الجمعي أننا نحن الأدباء، والمثقفين، وقادة الفكر، نؤكد رفضنا القاطع لحملة التهجير والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، ونؤكد أيضًا أن استقرار المنطقة وازدهارها مرهون بتحقيق الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية. وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بكافة أشكاله وأنماطه.
وأختم بنداءٍ خاص أبرقُ به للأخ الرئيس محمود عباس؛ بوصفه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بأن يشرع كل من فتح وحماس في فتح ذراعيه لاحتضان الآخر في رحلة صادقة نجمع فيها شتاتنا، ونوحد صفوفنا، ونمضي على قلب رجل واحد تختفي من حوله الأسماء والأعلام في مواجهة عدو لدود دأب على سياسة فرق تسد؛ لعلنا نستدرك الكثير مما فات؛ فنحافظ على غزة التي يراد نهبها على الملأ، ونحافظ أيضًا على ما تبقى من ضفتنا الغالية، ومن ثم نشق الطريق نحو التلاحم ببعدنا العربي وعمقنا الإسلامي نحو التحرير الشامل الذي - إن أخلصنا النوايا - لا أراه بعيدًا على الله سبحانه وتعالى. إني بلغت؛ اللهم فاشهد.
**
- كاتب فلسطيني