أ.د.عثمان بن صالح العامر
بالأمس القريب نُعي البروفيسور هاجد دميثان الحربي -رحمه الله- رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته وبدلاً أن يلقي ورقته في ملتقى النص القيت عنه والكل يدعو له بالمغفرة والرحمة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تمنح درجة الدكتوراه للطالب فالح بن مسفر العرجاني وهو في قبره حيث وافته المنية -رحمه الله- بعد أن سلم الرسالة وينتظر المناقشة، وهذه الطالبة نورة بنت محمد الشمراني -رحمها الله- تمنح درجة الماجستير من نفس الجامعة بعد أن ودعت الدنيا لعالم البرزخ. والأستاذة بدرية الحربي -رحمها الله- تودع الدنيا وهي في مدرستها، وثالث وخامس وهو في فراشه، وسادس لم يسكن قصره الذي شيده على أحسن طراز وقريباً سينتقل له، وهكذا، وصدق الله تعالى {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34).
لقد جعل الله عز وجل للعقل البشري حدوداً لا يتجاوزها، ولمداركه عالماً لا يمكن أن يتعداه، والنهايات التي يكتبها الله سواء للأمم وللحضارات أو للشعوب والأفراد هي في رحم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، والعقل البشري يتقازم أمام هذا النوع من المعارف، فهو لا يمكن له أن يعلم متى هي النهاية، ولا كيف وأين، فضلاً عن أن يقدم فيها أو يؤخر.
على المستوى الفردي مثلاً لا يعلم الإنسان متى سيموت، ولا كيف ستكون نهايته، ولا أين ومع من سيرحل عن دنيا الناس.
غالبيتنا يتوقع أن الجندي في المعركة هو من سيموت أولاً، وأن كبير السن قريباً سيودعنا، وقس على هذا المريض والمسافر سفراً غالبه الهلكة، ومن هم على شاكلة هؤلاء مما هو مبثوث في كتب الفقه، في المقابل نعتقد أنّ الصحيح والصغير والموظف واللاعب مكتمل القوى واللياقة و... أقل عرضة للموت، ولكن القدر الذي هو سر الله في خلقه يقول غير ذلك، ولا نجد له تفسيراً يقبل القياس والاستنتاج؛ لأنّ هذا من عالم الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34).
خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يخوض المعارك ويقاتل الأبطال ويواجه الأخطار، وفي النهاية يموت على فراشه، فيروي لنا لحظة الاحتضار نهايته من هذه الدنيا بقوله: «لقد شهدت مائة زحف أو نحوها، وما في بدني موضع شبرٍ إلاّ وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء! وما لي من عملٍ أرجى من لا إله إلا الله وأنا متترِّس بها».
لقد حاول الكثير من الفلاسفة والمنظّرين أن يسبر غور النهايات ويعطوا لها التفسيرات والتحليلات، ولكنهم – جزماً - أعجز من أن يصلوا إلى نتيجة، ذلك أنّ الله جعل للعقل البشري عالمه الذي لا يتجاوزه، ومتى حاول التمرد والخروج إلى ما هو خارج عالم الحس هلك وأهلك، مثله في ذلك تلك المدارس الفلسفية التي لا تؤمن إلاّ بما يقبل القياس العقلي ويمكن إدراكه بمنافذ المعرفة التي أوجدها الله في الإنسان.
إنّ موقف المسلم إزاء أقدار الله المؤلمة - بعد أن يبذل الأسباب ويفعل ما أوجب الله عليه محاولة منه لدفعها وتجنب آثارها - التسليم المطلق بقضاء الله وقدره، والرضا بما كان، وعدم السخط والجزع، والمبادرة منه بحمد الله سبحانه وتعالى، على أن هذه المصيبة التي حلت به لم تكن أشد مما هي عليه، ويتبع الحمد بالاسترجاع.
الشيء المجزوم به في هذا المقام أنه لا مفر من قدر الله إلا لقدر الله، ولا يملك الإنسان إزاءه إلا الدعاء، فاللهم لا تفاجئنا بمكروه، نعوذ بك يا الله من موت الفجأة.. وإلى لقاء، دمتم بخير وتقبلوا صادق الود والسلام.