خالد الأنصاري
تقع هذه المدرسة في أوساط «جامع» الأميرة حصة السديري بحي المعذر بالرياض.
إنها مدرسة و»جامعة» - في آن واحد- علمية عريقة تخرج منها العديد من العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى.
وقد كانت هذه «المدرسة» في تسعينيات القرن الماضي مقصدَ كثير من طلاب العلم، ومحل احتفاءٍ كبير بينهم، وتواصٍ بالحضور والالتحاق بها والالتزام بدروسها.
ولهذه «المدرسة» دورها الكبير في الحرص على نشر العلم الشرعي المؤصل في أرجاء العالم الإسلامي وشرق آسيا والمغرب العربي والجزائر.. من خلال المؤلفات والشروحات العلمية النافعة.
إنها «مدرسة» و»جامعة» شيخنا معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ ذالكم العالم الجليل.
والذي حرص على تربية طلابه بقليل العلم وكثيره، فتدرج في دروسه العلمية بشرح المتون في بعض الفنون؛ لتكون مفتاحاً لبقية الكتب في الفن ذاته.
ولا أظنّ أحداً درس بين يديه إلا كانت له صبغة حسنة عليه في العلم وحسن التعلّم.
وقد منَّ الله تعالى عليَّ بأن أكون أحد طلابه وممن ثنى ركبه في مجالسه وحلقاته العلمية.. فاستفدت من علمه وسمته، وتأثرت بأسلوبه العلمي الراقي بالتدرج في العلم وتلقين آدابه قبل البدء في الدرس، مما جعلني أقبل على العلم وأهله والتلذذ به، كما قال العلامة الماوردي -رحمه الله- في كتابه «أدب الدنيا والدين» (ص 92):
«العلم عِوَضٌ مِن كل لذة، ومُغْنٍ عن كل شهوة، فَمن تفرد بالعلم لم تُوحِشْهُ خلوة، ومَن تَسَلَّى بالكتب لم تَفُتْهُ سَلْوَة».
ومما زاد هذه «المدرسة» نفعًا وانتشارًا وقبولًا كونها انطلقت من المسجد، وتزداد بركة العلم عند حضوره في المساجد وتلقيه فيها.
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ..}.
قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله -:
«يدخل في ذلك الصلاة كلها، فرضها، ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع الذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والمذاكرة فيها».
فإن جميع الدروس العلمية بركتها ونفعها الأكثر فائدة هو ما كان في المساجد؛ لحفوف الملائكة بها.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
وثبت عن عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- أنه قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما كان العلم في المساجد».
وقال شيخنا فضيلة الشيخ محمد ابن عثيمين -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى والرسائل» (202/ 26):
»إن من أبرك العلم تحصيلًا وتأثيرًا في النفس وفي العمل والمنهج هو ما يحصل في المساجد، فما أبرك علم المساجد! لأن المساجد فيها خير وبركة، ولذلك أقول لكم عن نفسي: إن العلم الحقيقي الذي أدركته هو العلم الذي قرأته على المشايخ، وإن كنت استفدت من الجامعة في فنون أخرى، لكن العلم الراسخ المبارك هو ما يدركه الإنسان عند المشايخ».
وقد تأملت أثر عطاء شيخنا معالي الشيخ صالح آل الشيخ في «مدرسته» المباركة فوجدته عطاء شاملا عمَّ المشرق والمغرب، وشمل شتى فنون العلم والمعرفة والأدب والسياسة.
فهو رجل إداري وسياسي محنك، ولا أدل على ذلك من خطابه الذي ألقاه في الأزهر عن القدس.
وهو فقيه حنبلي يقرر المذهب ولا يتعصب له، بل يخالفه في بعض المسائل أحياناً إذا لم يوافق الدليل.
فشيخنا يقرر في «مدرسته» ودروسه ما يراه هو موافقا للكتاب والسنة، ولا يقلد أحدًا.
وكان يجتمع في مجالسه العلمية جموعٌ غفيرةٌ من طلبة العلم إلى يومنا هذا؛ ويذكرنا ذلك بمجالس إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- فقد كان يجتمع في مجلسه زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، ونحو خمسمائة يكتبون -أي يكتبون الحديث -، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.
ولله در الشاعر/ عبدالمجيد العُمري حين قال:
الشيخُ صالحُ درة في عصرهِ
لا الشعرُ ينصفهُ ولا الأقلامُ
سعدت جموع المسلمين بدرسه
وتسابقت لمقامهِ الأقدامُ
شيخٌ على هدي النبي محمدٍ
هو همه الإسلام لا الإعلامُ
رزق القبول بخُلقهِ وبعلمه
فتضاعفت في حُبّهِ الأقوامُ
يا ليت درس الشيخ يبقى قائماً
فبشـرحهِ يتحقـقُ الإفهـامُ
وقد اتسمت هذه «المدرسة» المباركة بعدة سمات.. من أبرزها:
- علو كعب شيخنا ورسوخ قدمه في العلم والمعرفة والبيان.
- تربية الطلاب بصغار العلم قبل كباره.
- تنشئة الطلاب على منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة.
- ربط طلاب العلم بولاة الأمر بالسمع والطاعة لهم وعدم الخروج عليهم.
- ربطهم بالعلماء الربانيين والراسخين بالعلم، علماء السنة، الذين هم أعلم الناس بالحق وأنصحهم للخلق.
- كثرة النقل عن الأئمة الأربعة، وابن تيمية وابن القيم وأئمة الدعوة وغيرهم.
- نشر تراث أئمة الدعوة وعلى رأسهم الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى.
- سعة الأفق وبعد النظر في العلم والمعرفة والسياسة.
- الرجوع إلى العلماء في مسائل الخلاف الفقهية الكبرى والنوازل.
- الرد على أهل البدع والأهواء.
- الاعتدال والتوسط ونبذ الخلاف والتعصب.
- فقه التعامل مع المخالف والرفق به.
وما زالت هذه المدرسة -ولله الحمد والمنة- {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، إلى أن استقرّ بها الأمر مؤخرًا في أروقة الحرمين الشريفين حيث ألقى شيخنا محاضرة عن تفسير سورة «يس» بالمسجد النبوي الشريف.
وبعد قرابة عدة أشهر من ذلك أعقبها بمحاضرة أخرى عن «تكوين الملكة الفقهية» بالمسجد الحرام.
فشيخنا العلامة معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ - حفظه الله- قد ملأ وطابه بسائر العلوم الإسلاميّة مما جعل له ولمدرسته القبول عند الكثير من العلماء في شتى بقاع المعمورة على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم.. وشيخنا من العلماء الذين نذروا أنفسهم للعلم والتعليم وجعلوا ذلك جزءا من حياتهم.
وشيخنا مدرسة ينهل منها الطلاب وأهل العلم منذ عقود، ولا يزال بفضل الله يعطي من منهله العذب كل وارد للعلم، وكل طالب له، وهو بذلك يزيد ولا ينقص كما قال الإلبيري في تائيته:
ينالُك نفعُهُ ما دُمتَ حَيـّاً
ويَبقى ذِكرُه لكَ إن ذَهبتَا
يزيد بكثرة الإنفاق منه
وينقص إن به كفاً شددتا
قال ابن المبارك -رحمه الله-:
»لا أعلم بعد النبوة درجة أفضل من بثّ العلم».
وأختم هذا المقال بدعوة إلى التمسك بأهداب هذه «المدرسة» المباركة، ونشر علمها، والحرص على حضور مجالسها، لأن هذه «المدرسة» هي في ذاتها امتدادٌ للمدارس العلمية التي أقامها العلماء الراسخون عبر التأريخ الإسلامي.
والناس لا يزالون بخير ما دام العلم منتشرًا بينهم ويحتفون بعلمائهم؛ لأن العلم هو النبراس الذي تضاء به الظلمات الحالكة، وهو الراية العالية التي ترشد إلى ما فيه خير الإنسانية جمعاء.
إضاءة:
قال شيخنا العلاَّمة صالح آل الشيخ -حفظه الله-:
«أعظم ما تجاهد به أعداء الله جل وعلا
والشيطان نشر العلم، فانشره في كل
مكان بحسب ما تستطيع».
كتاب «الوصايا الجلية»: (ص46).