جانبي فروقة
أحدث إطلاق شركة الذكاء الاصطناعي الصينية الناشئة DeepSeek ديب سيك صدمة في وادي السيلكون والعالم بإطلاقها نماذج لغوية متطورة مفتوحة المصدر ومجانية وبتكلفة مخفضة مما فتح باب المنافسة على مصراعيه مع عمالقة القطاع التكنولوجي، مثل أوبن أي آي OpenAi وغوغل Google وميتا Meta وقد أدت هذه الصدمة إلى نزيف حاد في سوق البورصات التقنية حيث خسرت إنفيديا لوحدها 600 مليار دولار في يوم واحد.
تأسست شركة ديب سيك في العام 2023م على يد ليانغ وينفينغ المستثمر البارع في صناديق التحوط والذكاء الاصطناعي وبدعم من صندوقه High Flyer ولديها 200 موظف وقامت بتطوير برنامجها بأقل من 10 ملايين دولار بينما تأسست شركة OpenAi قبل 10 سنوات ولديها 4500 موظف وجمعت أكثر من 6 مليار دولار من رأس المال.
قامت DeepSeek ديب سيك باستخدام فقط 2048 من شرائح انفيديا H800 الأقل تطورا بتكلفة لم تتجاوز 5.6 مليون دولار لتدريب نموذج فيه 671 معلمة (باراميتر) وهذا أقل بكثير مما تنفقه غوغل وأوبن أي آي OpenAi حيث إن OpenAi والتي فيها ما يقارب من 1.8 معلمة (باراميتر) وصرفت أكثر من 100 مليون دولار واستعملت ما بين 16 إلى 25 ألف من شرائح انفيديا المتطورة.
وفي خطوة ذكية للغاية استعملت ديب سيك طريقة تدعى «مزيج الخبراء» في عملية البحث مما ووفر الكثير من الموارد والطاقة المطلوبة وعمليات الحوسبة وهي ببساطة تتوافق مع قاعدة مهمة في الاقتصاد وهي «كن ذكيا وسريعا» «Be Smart الجزيرة Fast» وهذه القاعدة ساعدت ديب سيك في تدريب النماذج بقوة شرائح وطاقة زمن وتكلفة أقل كما قلنا.
هناك مؤشرات اقتصادية كثيرة ومنها مؤشر «بيج ماك» «Big Mac» التي ترسم صورة لاقتصادين يسيران في مسارين مختلفين: أحدهما الولايات المتحدة الأمريكية الذي يتميز بالاستقرار والابتكار، والآخر هو اقتصاد الصين الذي يتميز بالسرعة والحجم.
ولو نظرنا إلى مؤشر «بيج ماك» «Big Mac» وهو أداة غير رسمية أطلقتها مجلة الإيكونوميست لقياس تعادل القوة الشرائية (PPP) بين العملات المختلفة وببساطة في عام 2023 م كان سعر بيج ماك من مكدونالدز في الولايات المتحدة حوالي 5.58 دولار بينما بلغ في الصين 3.41 دولار مما يشير أن عملة اليوان الصيني مقومة بشكل أقل من قيمتها الحقيقية مقارنة بالدولار وكما يشير هذا المؤشر على الميزة التنافسية للصين من ناحية التكاليف المنخفضة للإنتاج وكفاءة سلاسل التوريد ويعكس تحسن القوة الشرائية للطبقة المتوسطة الصينية والذي سيساعد الصين من التحول من اقتصاد قائم على التصدير إلى اقتصاد يعتمد على الاستهلاك المحلي مثل الولايات المتحدة الأمريكية والذي يشكل نقطة قوة في أمريكا.
أصدرت مؤسسة ماكرو بولو الأمريكية للأبحاث التابعة لمعهد بولسن تقريرا يبين أن الصين قد تجاوزت مؤخرا الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها أكبر منتج في تقديم المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي وأنتجت أكثر من نصف باحثي الذكاء. ولو قارنا عدد المهندسين التكنولوجيين في الصين لوجدناهم 10 ملايين مهندس مع إنتاجية وسرعة تنفيذ عالية ويترافق ذلك مع نمو سريع للقوى العاملة نتيجة تخرج مئات الآلاف منهم سنويا من الجامعات الصينية (والتي اعتمدت منذ عام 2018 أكثر من 3000 برنامج متعلق بالذكاء الاصطناعي في المناهج) مقابل 4.5 مليون مهندس تكنولوجي في أمريكا مع إنتاجية عالية جدا نتيجة التركيز على الابتكار وجودة العمل ولكن مع نمو بطيء نسبيا للعمالة المتخصصة ولو قارنا التكاليف المتعلقة باليد العاملة لوجدنا أن متوسط راتب المهندس التكنولوجي في أمريكا تتراوح بين 100 إلى 150 الف دولار أمريكي سنويا اعتمادا على الخبرة والتخصص وتوجد تكاليف إضافية من تأمين صحي ومزايا أخرى بينما متوسط راتب المهندس الصيني يترواح بين 20 إلى 40 الف دولار أمريكي سنويا اعتمادا على المدينة والخبرة وبمزايا عمل أقل تكلفة وهذا عامل إضافي يعطي الصين ميزة تنافسية في قطاع التصنيع والتكنولوجيا ومن كل هذا نستنتج أن الصين تتمتع بتكلفة عمالة أقل وعدد مهندسين أكبر وسرعة أعلى في تنفيذ المشاريع مما يجعلها أكثر كفاءة من حيث التكلفة والإنتاجية وأما الولايات المتحدة الأمريكية تركز على الجودة والابتكار ولكن بتكلفة أعلى وسرعة أقل نسبيا.
لا تزال الصين أكبر مصنع في العالم، حيث تمثل نحو 30 % من الإنتاج الصناعي العالمي. بينما تظل الولايات المتحدة قوة صناعية كبرى، إلا أنها تحولت نحو اقتصاد قائم على الخدمات. إن هيمنة الصين في قطاعات مثل الإلكترونيات والمنسوجات والآلات مكنتها من تحقيق فائض تجاري ضخم، في حين تعاني الولايات المتحدة من عجز تجاري. ويصنف مؤشر الابتكار العالمي الصين اليوم في المرتبة الـ12 عالميا بعد أن كانت في المرتبة 34 قبل عقد من الزمن بينما لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية في المراكز الخمسة الأولى.
ومع ذلك تحتاج الصين إلى معالجة التحديات الهيكلية مثل الديون والضغوط الجيوسياسية والديموغرافيا لتحافظ على زخم النمو وإلى تحسين بيئة ريادة الأعمال والملكية الفكرية وتشجيع التعاون بين الجامعات والشركات ومساحة أكبر للحريات والابتكار فالثقافة الأمريكية تنظر للفشل أنه جزء طبيعي من عملية الابتكار مما يشجع على المخاطرة والسوق الأمريكي جاذبة للعقول بسبب سياسة الهجرة.
مؤخرا علق الرئيس الأمريكي ترامب الذي أعلن عن إطلاق مبادرة الذكاء الاصطناعي بقيمة 500 مليار دولار أن ديب سيك DeepSeek يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار بشأن الحاجة أن تكون الصناعة الأمريكية مركزة بشكل كبير على المنافسة للفوز وكما وصف المستثمر مارك أندريسن من وادي السيلكون أن نموذج DeepSeek R1 بأنه «لحظة سبوتنيك» الخاصة بالذكاء الاصطناعي في إشارة إلى إطلاق الاتحاد السوفيتي في خمسينيات القرن الماضي للقمر الصناعي سبوتنيك الذي دشن سباق الفضاء.