عايض بن خالد المطيري
في مجتمعاتنا تظل المعاناة النفسية طي الكتمان، فعندما يمرض الجسد، يسارع الإنسان إلى طلب العلاج بلا تردد، أما عندما تتألم الروح أو تضطرب النفس، تُقابل هذه المعاناة بالخجل والإنكار، وكأن الاعتراف بها ينتقص من إنسانية الفرد. هذه النظرة الخاطئة تزيد من معاناة المتألمين، وتدفعهم إلى الغرق في دوامة من الألم النفسي دون أمل في الخروج منها.
يؤكد علماء الطب أن الاكتئاب والقلق والاضطرابات النفسية ليست مجرد لحظات عابرة من الحزن أو التوتر، بل هي أمراض معقدة لها جذور بيولوجية ونفسية واجتماعية. ومع ذلك يربطها الكثيرون بمفاهيم خاطئة؛ فهناك من يعتقد أن المرض النفسي مرادف للجنون. لكن الحقيقة العلمية تنفي ذلك تماماً؛ فلا يوجد في قواميس الطب النفسي مصطلح اسمه «الجنون». الأمراض النفسية هي حالات طبية مُعرفة بدقة، ويمكن تشخيصها وعلاجها تماماً مثل أي مرض عضوي.
تفاقم المشكلة لا يكمن فقط في الجهل بهذه الحقائق، بل أيضاً في الربط بين المرض النفسي وضعف الإيمان. البعض يرى أن علاج المرض النفسي يكمن في الصلاة والدعاء فقط، وأن من يطلب المساعدة الطبية هو ضعيف الإيمان. هذا التصور يظلم الآخرين؛ فالصلاة والدعاء عناصر تُهدئ الروح وتعزِّز الصبر، لكنها ليست بديلاً عن العلاج الطبي. تماماً كما نطلب العلاج من طبيب مختص عندما نصاب بالحمى، يجب أن نفعل الشيء نفسه عندما تعاني أنفسنا من الألم.
كذلك وللأسف أيضاً أن المجتمع يروِّج خرافات تعيق طلب المساعدة في هذا الجانب، وهي الاعتقاد بأن الأدوية النفسية تسبب الإدمان، وهذا الاعتقاد مبني على سوء فهم؛ فالأدوية النفسية تُوصف بدقة من قبل المختصين، وتُستخدم لعلاج حالات محددة وفق جرعات مدروسة، واستمرار العلاج لفترات طويلة لا يعني الإدمان، بل هو جزء من خطة علاجية يصفها الطبيب المعالج تهدف إلى استعادة التوازن النفسي، ولكن يتطلب الاستمرار في المتابعة مع الطبيب دون اجتهادات أخرى.ويكمن الخطر الأكبر في التأخر عن الاعتراف بالمشكلة، حيث إن تجاهل الأعراض النفسية وعدم اللجوء إلى المساعدة يؤديان إلى تعقيد الحالة، مما يؤدي إلى انهيار الشخص وتدهوره. وفي الوقت الذي يخشى فيه البعض وصمة «المريض النفسي»، يتحول هذا الخوف إلى حاجز يمنعهم من التصالح مع أنفسهم والبحث عن الحلول المناسبة.
إن النفس البشرية ليست محصَّنة ضد الألم، تماماً كما يتعرض الجسد للأمراض، تتعرض النفس أيضاً لأزمات واضطرابات تحتاج إلى تدخل مختصين. العلاج النفسي ليس عيباً، بل هو شجاعة، شجاعة وبطولة في مواجهة الحقيقة، والاعتراف بالحاجة إلى مساعدة. ومن يلجأ للطبيب النفسي ليس مريضاً دائماً، بل هو إنسان يدرك أهمية صحته النفسية، ويسعى للحفاظ على توازنه وحياته وحياة من حوله.
ولهذا بذلت وزارة الصحة جهودًا مشكورة بإنشاء عيادات نفسية متطورة تقدِّم خدماتها في معظم المراكز الصحية والمستشفيات. ومع ذلك، تظل هذه الجهود بحاجة إلى دعم مجتمعي يغيِّر النظرة السلبية تجاه هذه المرافق، ويعزِّز الوعي بأن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية. فالتأخر في طلب المساعدة النفسية يعني إهدارًا للوقت والفرص الثمينة.فالتحرر من الخوف هو الخطوة الأولى على طريق الشفاء، وهو المفتاح لحياة أفضل مليئة بالصحة والتوازن.