عبدالوهاب الفايز
ضمن اللقاءات الدورية في ديوانية (الجمعية السعوديه لكتاب الرأي) في الرياض، والتي تستضيف كبار المسؤولين والقيادات في الدولة، التقى الكتاب الأسبوع الماضي مع الرئيس التنفيذي للمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية الدكتور محمد علي قربان. أتاح هذا اللقاء الفرصة لمعرفة النقلة النوعية الجديدة في منظومة الحياة الفطرية، وما حققته خلال السنوات الأربعة الماضية.
ومنجزات بلادنا في هذه الجبهة تقدم صورة حضارية عن المواطن السعودي، المشغول بكل ما ينفع نفسه وبلاده، وبكل ما ينفع الإنسانية.. وبما يحقق الهدف الأساسي من وجود الإنسان في هذه الأرض.
في هذه اللقاءات، دائما نسعد بمعرفة (قصص النجاح) التي تتحقق في مختلف القطاعات، ونسعد أيضا عندما نرى أننا مشغولون بنشر الإعمار والبناء، ونسعد برحلة التعلم في مواجهة التحديات وبقدرة الكفاءات الوطنية على تحديد وتعريف مشاكلنا.
وكما تعرفون، تحديات التنفيذ هي الأصعب والأهم، فهذه تتطلب الكثير من الجهد والوقت والصبر على تحمل المسؤولية. فتنفيذ البرامج والمشاريع حتى تصل غاياتها ومستهدفاتها هو التحدي الأكبر، فبعد سنوات التحليل والتشخيص ووضع الاستراتيجيات يبقى: تحدي التنفيذ!
وهذا الذي يجعلنا نسعد بالإنجازات في مختلف المجالات، وسعادتنا تتضاعف حين نرى في البيئة الدولية القريبة والبعيدة، مشاهد الخراب والدمار المؤسفة في حق الشعوب المتطلعة للأمن والسلام، ونرى فيها أيضا الرغبة في الصراعات ونزعات العنف. كل هذه تجعلنا نرتد إيجابيا لأجل تعزيز وتدعيم (الجبهة الداخلية) لبلادنا، فهذه هي الدرع والحصن الذي حفظنا وما زال يحفظنا - بعد رعاية الله - من تقلبات الأحداث الجسام.
اللقاء الذي استمر لما يُقارب الثلاث ساعات مع الدكتور قربان لم يكن كافيا لإستيعاب ما تحقق في هذه المنظومة من منجزات، ومعرفة ما تواجهه من تحديات، بالذات في بعض الجبهات التي مازالت ساخنة مثل: تحديات استثمار الفرص في المحميات، والاستمرار في تطبيق حلول المرحلة الثانية التي يجري تنفيذها للقضاء على مشكلة قرود البابون التي تزعج المواطنين في عدة مناطق في جنوب المملكة وغربها. والمركز أسس وحدة الاستدامة لضمان استمرار المعالجة واستمرار المراقبة، ومكافحة الأسباب، وإعادة التوازن البيئي والاستمرار في حملات التوعية. وأيضا وتحديات البيئة البحرية في شواطئ بلادنا الطويلة.
وهنا نستعرض أبرز هذه المنجزات - وليس كلها - التي تطرق لها الدكتور قربان، وفي مجملها تؤكد أن السعودية تقود جهودًا رائدة عالميًا وإقليميًا في الحفاظ على الحياة الفطرية، وتعمل على إعادة تأهيل الأنواع المهددة، وإنشاء المحميات، مع إطلاق مبادرات خضراء كبرى، والهدف: تعزيز الاستدامة والمحافظة على التنوع البيئي للأجيال القادمة.
من هذه المنجزات ما تحقق في إطار إدارة وتنمية المحميات الطبيعية والمحافظة عليها، سواء في المحميات الملكية أو في المحميات التي يشرف عليها مركز الحياة الفطرية. المركز هو المظلة الوطنية للتشريعات للمحميات الطبيعية. هذه تبلغ نسبتها الآن ما يقارب 19 % من مساحة المملكة البرية، ومساحة المحميات البحرية 6.48 %. وهذه المساحات مقرر وصولها إلى 30 % في عام 2030، هذه تتطلب السياسات والمُمكنات التي تتيح تنميتها والمحافظة عليها، وتحويلها إلى فرصة استثمارية لتوفير الموارد المالية المستدامة.
وجانب الاستثمار دار حوله حوار موسع، فالمحميات بدأت الناس ترى أثرها الكبير على الحياة الفطرية وعلى الغطاء النباتي، وبدأت تلمس تقلص كميات الغبار نتيجة التدخل الجاد للسيطرة على الأنشطة والممارسات المضرة بالبيئة. والعام الماضي أدرج الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN) في القائمة الخضراء التابعة للاتحاد كلًا من (محمية الملك سلمان بن عبدالعزيز الملكية)، و(محمية الوعول) التابعة لمركز الحياة الفطرية.
والقائمة الخضراء هي برنامج عالمي يحدد المؤشرات والمعايير التي تحقق رعاية المحميات الطبيعية بصورة عادلة وناجحة، والهدف تسليط الضوء على أفضل الممارسات. وهذا التسجيل اعتراف عالمي من خبراء مستقلين.
وتطرق النقاش إلى الأثر الذي يترتب على دخول هذه المحميات في القوائم العالمية، واتضح للحضور أن هذا يضع علينا - كسعودين - مسؤولية، وهي: أهمية الاستمرار والتوسع بالجهود الشعبية (جهود القطاع الثالث) والحكومية والعلمية والمهنية المنظمة التي تحافظ على البيئة وتصون الطبيعة وتحفظ الكائنات الحية الفطرية. أيضا يتطلب البناء على نجاح برامج إدارة محمية الوعول والحفاظ عليها بشكل فعال لأجل التحسين المستمر لأنظمة البيئة والتنوع الأحيائي. وكذلك يؤكد على وجود أمر مهم وهو: ضرورة توفر الخدمات والمنافع للمجتمعات المحلية داخل المحميات.
وهذا الجانب مهم لنجاح المحميات، فالتجارب الدولية توضح أن المحميات التي لم تراع الاحتياجات المحلية للسكان، ولم تعدل في وضعهم الاجتماعي والاقتصادي فشلت وتم التخلي عنها.
من الإنجازات التي تطرق لها النقاش جائزة (الريادة للأنواع المهاجرة من الطيور)، التي حصلت عليها المملكة، وهذه تُمنح للدول التي ساهمت في دعم وقيادة مبادرة معالجة الصيد والإتجار غير النظامي للأنواع المهاجرة من الطيور في منطقة جنوب غرب آسيا، للفترة من 2024 - 2026م. الجائزة التي حققتها المملكة، كانت تقديراً من خبراء وعلماء الحياة الفطرية في المجتمع الدولي، وهي ثمرة لجهودها الكبيرة للحفاظ على ممرات الطيور المهاجرة، وأماكن تكاثرها، وحمايتها من الصيد الجائر.
أيضا تطرق الحوار إلى مبادرة تقييم البيئات البحرية والساحلية وإعادة تأهيل المتضرر منها. والمركز يعالج هذا الأمر عبر وضع استراتيجية وطنية للاستخدام المستدام للموائل البحرية والساحلية للحفاظ على التنوع الأحيائي البحري، والحد من تضرر النظم البيئية البحرية، ولدى المركز خطط لإدارة وحفظ الموائل الساحلية بشكل مستدام، وتم رصد التهديدات للبيئة البحرية بعد الحصول على نتائج المسوحات الميدانية المنهجية. والمركزعمل على تدريب كوادر وطنية لترسيخ مهارات ومفاهيم وأخلاقيات المحافظة على البيئة البحرية وما تحويه من أحياء فطرية.
ومن المشاريع التي نفذها المركز ودعمها سمو ولي العهد - يحفظه الله- (رحلة العقد) والتي تعد أول رحلة ومسح شامل لمناطق وبيئات لم يسبق دراستها في البحر الأحمر. بدأت من منطقة عفيفي جنوبا حتى خليج العقبة شمالا، وشارك في الرحلة 126 باحثاً محلياً وعالمياً، واستمرت 19 أسبوعاً، والمثير في الرحلة أنها رصدت ولأول مرة عددا من المحميات الطبيعية في البحر وسميت (الثقوب الزرقاء) اشتقاقا من شكلها الأزرق المميز، وكشفت ايضا عن تكاثر بعض الحيتان في البحر الأحمر، وبرزت أدلة على وجود القرش الأبيض العظيم، كما رصدت الرحلة كُتلا حيوية ضخمة على أعماق سحيقة وخصائص فريدة لقيعان البحر الأحمر.
ومن الإنجازات التي تمت الإشارة إليها في الحوار مشروع تقييم حالة الموائل البحرية على طول الساحل السعودي في البحر الأحمر. هنا نفذ المركز عددا من المسوحات الميدانية لأكثر من 600 موقع للشعب المرجانية و200 موقع للحشائش البحرية و100 موقع لأشجار المانجروف، إضافة إلى رصد المخاطر المرتبطة بالأنشطة البشرية.
وبخصوص أشجار المنجروف، عمل المركز على مشروع وطني لاعادة زراعتها في البيئة البحرية التي تضررت من الأنشطة البشرية على السواحل التي تم ردمها بطريقة لم تراع الاشتراطات البيئية، والمملكة تستهدف زراعة أكثر من 100 مليون شجرة مانجروف خلال الأعوام المقبلة في إطار تحقيق أهداف رؤية 2030 .
وكانت هناك استفسارات حول مبادرة إكثار وإعادة توطين الكائنات المهددة بالانقراض في بيئاتها الطبيعية، واتضح أن المركز أطلق أكثر من 7000 كائن مهدد بالانقراض، من خلال برامج إكثار قائمة وهي: إكثار المها العربي، وظبي الريم، وظبي الإدمي، والوعل الجبلي، وطائر الحبارى، وطائر النعام، إضافة إلى برامج مستهدفة تتضمن إكثار الذئب العربي، والوشق، والضبع المخطط، والفهد الصياد، والأرنب البري.
إنجازات عديدة تحققها بلادنا، وكلها داعم أساسي للتنمية المستدامة وتضعنا في المسار الصحيح لبناء وتعزيز الجبهة الداخلية، وهذا هو الحامي لبلادنا مهما إدلهمّت الأمور وتكشفت نوايا الأعداء ضد بلادنا وقياداتها. فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل.