د. محمد بن أحمد غروي
في ظل عالم تتزايد فيه التحديات السياسية والاجتماعية، يصبح الحوار بين الأديان ضرورة لا غنى عنها لتحقيق السلام والاستقرار، وقد اعتمدت الأمم المتحدة أسبوع الوئام العالمي بين الأديان ليحتفي به سنويًا في الأسبوع الأول من فبراير، بهدف تعزيز التفاهم والتعايش بين مختلف المجتمعات الدينية، وتشجيع المبادرات التي تعمل على مد جسور التعاون والاحترام المتبادل.
إن التنوع الديني والثقافي الذي يشهده العالم يجب ألا يكون مصدرًا للفرقة والصراعات، بل يجب أن يكون فرصة للتكامل، حيث يحمل كل دين منظومة قيمية تسهم في بناء مجتمعات أكثر تسامحًا وتعاونًا، ولعل التجربة الناجحة التي تشهدها منطقة آسيان، التي تضم أديانًا ومعتقدات متعددة، دليل على إمكانية تحقيق التوازن بين التنوع والتعايش، عندما تكون هناك إرادة سياسية واجتماعية لدعم قيم التسامح والاحترام المشترك.
لا يقتصر تحقيق الوئام الديني على جهود الحكومات، بل يتطلب مشاركة فاعلة من مؤسسات المجتمع المدني التي يمكنها أن تؤدي دورًا محوريًا في نشر ثقافة الحوار، وتعزيز المبادرات التي تجمع أتباع الديانات المختلفة على قضايا مشتركة، مثل التنمية المستدامة، ومكافحة الفقر، والتعليم، وحماية البيئة، فالعمل المشترك في هذه المجالات يمكن أن يسهم في إذابة الحواجز المصطنعة التي تفصل بين المجتمعات، ويعزز الإحساس بالمسؤولية الإنسانية المشتركة. شهدت السنوات الأخيرة تزايدًا في المبادرات التي تقودها منظمات إسلامية دولية لتعزيز الحوار بين أتباع الأديان المختلفة، مثل رابطة العالم الإسلامي ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، والتي أطلقت مبادرات عدة تهدف إلى إقامة علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون الإنساني ولا شك في أن هذه الجهود تمثل نموذجًا مهمًا يجب دعمه وتطويره، خاصة في ظل محاولات بعض الجهات إثارة الفتن الدينية وتأجيج النزاعات عبر توظيف الاختلافات العقائدية.
أحد أبرز التحديات التي تواجه الوئام بين الأديان هو انتشار خطاب الكراهية، الذي يستخدمه بعض الأطراف لأغراض سياسية أو أيديولوجية، مما يهدد السلم المجتمعي، وما يزيد الأمر تعقيدًا هو عدم وجود تعريف دولي موحد لخطاب الكراهية، حيث تختلف الرؤى بين الدول حول الحدود الفاصلة بين حرية التعبير والتحريض على الكراهية.
لكن إذا نظرنا إلى التاريخ، فسنجد أن الحروب والصراعات الدينية التي اندلعت في الماضي كانت في كثير من الأحيان نتيجة خطاب تحريضي متطرف أدى إلى تأجيج المشاعر وتأليب المجتمعات ضد بعضها بعضا، ولذلك، فإن التعامل مع هذه القضية يتطلب مقاربة متوازنة، تضمن حرية التعبير، دون أن تتحول إلى أداة لإثارة الكراهية والعنف. إن بناء مستقبل يقوم على التسامح والتفاهم بين أتباع الأديان المختلفة يستلزم رؤية حضارية مشتركة، ترتكز على المبادئ التالية: إعلاء القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع بين مختلف الأديان، مثل الرحمة، والعدالة، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز ثقافة الحوار، ليس فقط على المستوى السياسي، بل أيضًا في المجالات التعليمية والإعلامية والمجتمعية، مواجهة محاولات إثارة الفتن الدينية، عبر التأكيد على الخصوصيات الدينية لكل مجتمع مع احترام معتقدات الآخرين، إضافة إلى الاستثمار في التبادل الثقافي والتعليمي، كوسيلة لتعزيز الفهم المتبادل وتقوية أواصر التعاون بين مختلف الشعوب.
إن الوئام العالمي بين الأديان ليس مجرد فكرة مثالية، بل هو مطلب ضروري لضمان مستقبل أكثر استقرارًا وسلامًا، ولا بد أن يدرك الجميع أن الصراعات الدينية لا رابح فيها، وأن التفاهم والتعايش هما السبيل الأمثل لبناء عالم أكثر وئامًا وإنسانية.
فالرهان الحقيقي اليوم ليس على إلغاء الاختلافات، بل على كيفية إدارتها بشكل حضاري يضمن احترام الجميع، ويؤسس لعلاقات قائمة على الاحترام المتبادل والعمل المشترك.