د.حادي العنزي
على ناصية الشارع المقابل لمنزلي، يوجد أحد الجيران من مواليد 1/ 7 أو 1 رجب، وهو تاريخ ميلاد افتراضي لجميع السعوديين الذين يجهلون يوم وشهر ميلادهم الصحيح، أو لا يملكون شهادات ميلاد تُثبت تاريخاً محدداً لميلادهم.
كلما شاهدت هذا الجار، تشبث بي يدعوني إلى فنجان قهوة مع القدوع، ولمن لا يعرف القدوع، فهو مصطلح خليجي يُقصد به التمر الذي يُقدم عادة مع القهوة للضيف، وهو مفهوم عائم على امتداد الخريطة العربية، ويتفاوت معناه بين ثقافات الكرم التي تميزت بها أصالة العرب.
ما يهمني ويشغلني هو تناقضات جاري، والكاريزما التي يمتلكها، بالإضافة إلى صعوبة تصنيف حالته المالية ووضعه الاجتماعي. فهو يمتلك منزلاً كبيراً، يتردد عليه أشخاص ينتمون إلى فئات عمرية متنوعة، بينهم الأطفال والشباب والكهول. يظهر هذا الجار في حارتنا قليلاً ويغيب كثيراً، وإذا حضر، تحوّل الشارع وعلى امتداده إلى ازدحامٍ شديد وارتال من السيارات التي تتنوع بين الفارهة والمتوسطة وحتى القديمة.
زواره يتوافدون عليه باستمرار. لهجاتهم مختلفة، هذا من الرياض وذاك من القصيم، وهؤلاء من الشمال وأولئك من الجنوب أو الغربية والشرقية، لكنهم للأمانة مؤدبون وملتزمون بالتحية والسلام، وارتداء الغترة أو الشماغ!
قررت وبإرادتي، وبعد إلحاحٍ من جاري، أن أدخل منزله، ومنذ أن تخطت قدماي عتبة داره، زادت حيرتي أكثر وتداعت الاستفهامات عندي.
خيمة كبيرة منصوبة في أرضٍ واسعة أمام الفيلا، تفوح منها رائحة البُن، تملأها مجموعة دلال مصفوفة وبأحجام مختلفة تتمايز ألوانها بين الفضي والذهبي. والدلة وعاء يستخدم في تحضير وتقديم القهوة، وهي جزء عميق من الهوية الثقافية والاجتماعية للسعوديين، ورمز الكرم والضيافة، وعنصر أساسي في كافة المناسبات واللقاءات الرسمية والعائلية.
كان ترحيبه حاراً واهتمامه بالغاً، ومن شدة احتفائه صنع القهوة بنفسه، وقدم لي «القدوع» في طبقٍ يعلو رأسه غطاء من الزجاج الثقيل، علل ذلك بأن الأوعية الزجاجية أفضل الخيارات لحفظ التمر، حيث إنها صحية ولا تتفاعل مع الغذاء، وتساعد في الحفاظ على بقاء النكهة.
أثناء تقديمه فنجان القهوة، أشار بيده إلى نخلة عالية تتوسط فناء المنزل، وقال إنها مصدر التمر الذي يقدمه لضيوفه. بعدها أخذني إلى داخل المنزل وجلسنا على أرائك تجمع بين الفخامة والجودة!
كان يُحدثني بمشاعر دافئة وكلمات عفوية، خاض فيها بمختلف العادات والتقاليد من الجاهلية مروراً بسِير الصحابة رضوان الله عليهم، ثم النزاعات والحروب، وما يحدث للأطفال من قصص وحكايات، مستشهداً بقصة الطفل اليمني اليتيم الذي استغلته عصابة يمنية وهربته للسعودية، مؤكداً وبألمٍ عميق أن الحرب لا تقتصر على السلاح فقط، وإنما تمتد إلى القيم والأخلاق.
كان يستفهم مني ويسألني، وكنت أسأل نفسي، كيف جمع جاري كل هذه الصفات الحميدة والمتناقضات الفريدة؟ بدوي في المدينة، يقضي صباحه بين البراري، لديه إبل وأغنام، يسكن قصراً ويمتلك أفخم السيارات ويستخدم أحدث التقنيات. كل الناس أسرته، وكل الأوقات في حضرته. يعيش في تناغمٍ سلس بين البداوة والحضارة، كأنه لوحة فنية تتجلى فيها ألوان براءة الحياة وفطرة الإنسان، وتنسج خيوطها بين الماضي والمستقبل، يحمل في قلبه تراث الأجداد، وفي عقله آمال الأجيال.
حقيقة جاري أنه يختزل الهوية السعودية بكل تفاصيلها وأبعادها، وأنه حالة اجتماعية شاملة لكل السعوديين، حيث تتداخل القيم والتقاليد في نسيج واحد، يتجاوز الحدود الجغرافية والاجتماعية. إنه يمثل نموذجاً لمعيشة الإنسان السعودي الذي يمارس أساليب متعددة يصعب تفكيكها أو وضعها في قوالب جاهزة.
هي حالة غريبة تمزج وبكل لطف حالة البداوة مع الحضارة، وتخلط بكل احترافية بين التقاليد القديمة والحديثة، تشكلت بسبب التمسك بالأصالة ومسايرة العولمة والتوازن الدقيق بين الحاضر والماضي.
لم يختل توازنه بسبب سرعة العصر أو التحولات العالمية والتقدم التكنولوجي، لكنها فتحت باباً واسعاً على أبنائه وصراعاً داخلياً. أحدث فجوات ثقافية، جعلت البعض يشعرون بالاغتراب الذي زادت من وتيرته الضغوط التقنية والمنصات الإعلامية التي تُروج لصورة مشوهة عن المجتمع السعودي.
وهذا يستدعي الجهات المسؤولة لتكثيف جهودها، والعمل أكثر وبعمق على ردم فجوات الاغتراب من خلال البرامج الفاعلة والنشاطات المثمرة التي تحفظ الهوية، وتصون الأصالة، وتجعل الأبناء ينسجمون مع ماضي الأجداد وحاضر الآباء، ليكونوا جسراً متيناً ينقل المجتمع نحو مستقبل مزدهر، تتكامل فيه العراقة مع الحداثة، وتتعانق فيه القيم مع الطموحات.
إن الهوية الثقافية هي نتاج تفاعلٍ معقد بين التاريخ والجغرافيا والدين والعادات والتقاليد، ومسؤولية الدفاع عنها وصونها والمحافظة عليها تتوزع بين عدة جهات رسمية وغير رسمية، ومن أبرزها وزارة الثقافة، فهي الجهة الرسمية الأولى المعنية بتعزيز الهوية الثقافية للسعوديين. فقد أُنشئت في إطار رؤية 2030، وتهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي الوطني، وتعزيز الفنون والآداب، وتطوير الصناعات الثقافية التي تعكس الهوية السعودية للعالم.
كما أن هيئة التراث يتركز دورها على حماية التراث الثقافي غير المادي (مثل العادات والتقاليد واللهجات) والمادي (مثل المواقع الأثرية والمعمارية)، يجب أن تكون المساهم الأول في توثيق وصون العناصر التي تُشكل جزءاً جوهرياً من الهوية الثقافية للسعوديين. أيضاً وزارة التعليم مطالبة بالقيام بواجبها المحوري في ترسيخ الهوية الثقافية من خلال المناهج الدراسية التي تُبرز التاريخ الإسلامي، والعادات والتقاليد الاجتماعية، واللغة العربية، بصفتها ركائز أساسية للهوية الوطنية.
أما هيئة الإعلام المرئي والمسموع، فهي مطالبة بتقديم صورة متوازنة للهوية الثقافية السعودية عبر الإعلام، وأن تُعزز القيم الثقافية الوطنية وتقدم البرامج المتنوعة والوثائقية التي تُبرز التراث والتقاليد.
يجب أن تساند المؤسسات الأكاديمية والبحثية الجهات الرسمية في هذا المسعى، عبر دراسات معمّقة وخطط مبتكرة تدعم الحفاظ على الهوية وتعزز الانتماء.
فيما تُعد الأسرة والمجتمع المحلي من أهم الحاضنات للهوية الثقافية، حيث تنتقل القيم والعادات والتقاليد من جيل إلى جيل، مما يعزز ارتباط الأفراد بجذورهم الثقافية، وهؤلاء بأشد الحاجة إلى تكثيف البرامج التوعوية الشاملة.
إن المحافظة على الهوية الثقافية مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود من كافة الأطراف، بدءاً من المؤسسات الرسمية، مروراً بالمجتمع المحلي، وصولاً إلى الأفراد أنفسهم. فالهوية ليست مجرد إرث يُحفظ، بل هي طاقة حية تُغذى باستمرار من خلال التعليم، والإعلام، والأسرة، والمبادرات الثقافية.
ومع رؤية 2030، تتجلى أمامنا آفاق واسعة لإعادة صياغة حضور الهوية الثقافية السعودية عالمياً، ليس فقط كتراث فريد ومتنوع، بل كمنارة حضارية قادرة على التأثير والإلهام.