سطام بن عبدالله آل سعد
لم يكن تصنيع السيارات يومًا ضمن الخيارات المطروحة للمملكة، فقد اعتادت أن تكون سوقًا مستهلكة تعتمد على الاستيراد، حيث ظلت عجلة الصناعة تدور في الخارج بينما تقتصر المملكة على الاستهلاك. لكن التحولات الكبرى لا تصنعها القرارات السهلة، بل تأتي من الرؤى الجريئة والاستراتيجيات بعيدة المدى.
واليوم، لم يعد السؤال: لماذا نصنع؟ بل كيف سننافس في سوق عالمي يشهد تغيرات متسارعة، حيث لم يعد التصنيع مجرد خيار، بل ضرورة تفرضها معطيات المستقبل ومتطلبات التنمية الاقتصادية.
جاء الدخول في هذه الصناعة في لحظة مثالية، حيث نضجت البيئة الاقتصادية، وتهيأت بنية تحتية وتشريعات داعمة للصناعات الثقيلة، إلى جانب رؤية 2030 التي جعلت التصنيع المحلي أولوية استراتيجية. وفي الوقت نفسه، فتحت السيارات الكهربائية الباب أمام منافسين جدد، مما منح المملكة فرصة لدخول السوق بميزة تنافسية حقيقية. غير أنّ امتلاك الفرصة لا يكفي، فالنجاح يتطلب صناعة متكاملة قادرة على الصمود والمنافسة عالميًا.
ولهذا، فإن بناء قطاع السيارات لا يقتصر على إنشاء المصانع، وإنما يستلزم تطوير منظومة صناعية شاملة تعتمد على البحث والتطوير، وتكامل سلاسل الإمداد، وتعزيز بيئة تنافسية تدفع نحو الابتكار؛ فالتحدي الحقيقي لا يكمن في التصنيع ذاته، إنما في بناء علامة تجارية سعودية تستطيع فرض وجودها في الأسواق العالمية وكسب ثقة المستهلكين محليًا ودوليًا، وهذا يتطلب استثمارات ضخمة في تدريب الكفاءات الوطنية، ودعم القطاعات المساندة، مثل الصيانة، والتوزيع، وغيرها لضمان استدامة الصناعة واستمرار نموها.
لقد ساهمت التطورات التكنولوجية في إعادة توزيع الفرص، الأمر الذي ساعد المملكة بامتلاك مقومات تنافسية قوية، بفضل مصادر الطاقة المتجددة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والاستثمارات المتقدمة في التقنيات الحديثة، مما يمكنها من الانتقال من مرحلة الاعتماد إلى الاستقلال الصناعي وموقع الريادة. ومع ذلك، فإن الرهان الأكبر يتمثل في تحويل هذه الإمكانيات إلى قيمة فعلية على أرض الواقع عبر نموذج صناعي يحقق الاستدامة.
وفي ظل هذه المنافسة الشرسة، لا يمكن توقع نقل التقنية بشكل فوري، ولا بناء الثقة في المنتج السعودي دون تحقيق معايير جودة عالية وخدمات متكاملة. فالتحول إلى دولة صناعية لا يعتمد فقط على القدرة الإنتاجية، وإنما يشمل تأسيس منظومة تبدأ من الأبحاث وتمر بسلاسل التوريد والتصنيع، وتنتهي بالتوزيع والتصدير. ويهدف هذا التوجه إلى إرساء هوية صناعية سعودية تنافس عالميًا، وتكسر الصورة النمطية للمملكة كدولة مستهلكة إلى دولة مصنعة ومصدرة.
بيد أنّ التجارب السابقة أثبتت أن السعودية قادرة على تحقيق هذا التحول. فقد نجحت في بناء صناعات لم تكن موجودة، مثل البتروكيماويات والطاقة المتجددة، وحققت فيها ريادة عالمية. واليوم، تمتلك المملكة المقومات ذاتها لدخول قطاع السيارات، من بنية تحتية متطورة، وسياسات صناعية طموحة، إلى استثمارات ضخمة في التقنيات الحديثة. الفارق الوحيد بين النجاح والفشل في هذا القطاع الجديد هو القدرة على الاستمرار والاستثمار طويل المدى.
لقد تحول اقتصاد المملكة من الاستهلاك والاستيراد إلى التصنيع والمنافسة والتصدير، فاليوم انطلق التصنيع، وغدًا يبدأ التصدير، وبعد غد تترسخ مكانة المملكة بين الدول الصناعية الكبرى، ومجمع الملك سلمان لصناعة السيارات يمثل إعلانًا واضحًا بأن المملكة تصوغ مستقبلها الصناعي بيديها.
** **
- مستشار التنمية المستدامة