د. محمد بن إبراهيم الملحم
المدرسة لها وقار كما هو للأشخاص ذلك أنها محضن تربوي في المقام الأول يقوم على تأسيس الشخصية القويمة لبناء المواطن الصالح الذي هو ركيزة بناء المجتمع لكل المجالات الإنسانية من ثقافة واقتصاد وسياسة وعلوم وتقنية وحتى المجالات العسكرية التي تحمي البلد وأمنه وأمانه. هذه الشخصية «البنائية» التي هي محل فخر وثقة تصنعها الجدية والمثابرة وتصقلها التربية كما تصقل المعادن فيبدو النحاس لامعا والحديد قويا منتظما والذهب زاهيا براقا يكسوه الجمال، وهذا الصقل من الطبيعي أن يذوق فيه المتعلم أحيانا بعض المرارة ويجد فيه ألم التعب والمشقة ذلك أنه وسيلة بناء وتكوين، ولذا فإنه لا يجب أن يكون إلا في بيئة جادة رزينة نظيفة من الشوائب بعيدة عن المهازل، ولا يدخل في هذا المعنى تسليمنا جميعا بضرورة ما يروح عن النفس في المدرسة وأن يتوافر الجانب الإنساني الجميل من تعاون وتسامح ولطف، وإنما لا يجوز أن تدخل إلى بيئة التعلم والتربية «الشوائب» التي تكدر صفاء جديتها وتنقص هيبتها، ومن ذلك ما سأذكره بعد قليل من تصرفات تجرح وقار المدرسة وتثلم فأس بنائها وتحجب بعض بريق نورها الجميل.
المثال الأول: شاهدت مقطعا لإحدى مدارس البنات وقد جلبن من يسمون «الطقاقات» كي يضربن الدفء في المدرسة وترقص البنات وهو أمر لا بأس فيه في حفلات الناس وأعراسهم ولكن ليس مكانه المدرسة، قد لا يؤيدني البعض في هذا الرأي ويرى أن المدرسة يمكن أن تكون مكانا للرقص بالنسبة للبنات وأنا أقول مثلهم كذلك نعم يمكن.. ولكن متى؟ الجواب عندما تكون هناك قيمة تربوية أو تعليمية وراء ذلك.. وهو حال أي نشاط ينفذ داخل المدرسة، فمثلا عندما تكون لدينا رقصة وطنية أو محلية ونريد أن تتقنها الأجيال وتدرب المعلمات الطالبات عليها للحفاظ على تراثنا فلا بأس أما أن تهز البنت وسطها وأكتافها وتلعب بشعرها فقط من أجل التسلية في جو المدرسة فلا توجد قيمة تربوية وراء ذلك، حتى لو كانت المناسبة الاحتفال بيوم وطني مثلا فهناك صيغ كثيرة ومتنوعة لإحداث الفرح والسرور وبث البهجة في جو المدرسة دون المساس بوقارها فمثل هذا الرقص لا يتناسب مع ما توطن في النفوس وتأكد في المفاهيم نحو قيمة المدرسة التربوية ومكانتها ووقارها الذي يجب أن تؤكده تصرفات المدرسة في نفوس الطالبات والطلاب فلا يتم اختيار أنشطة لا تتلاءم مع هذا الوقار وإنما نكون أكثر تحفظا ومع أن هذه النظرة قد يكون فيها شيء من المبالغة لكنها مبالغة محمودة للتأكيد على هذه القيمة ودعم وقار المدرسة في أبهى صورة.
المثال الثاني هو ما يسمى «اليوم المفتوح» في مدرسة الأولاد وفكرته أن يطلب من كل طالب أن يأتي بطبق لتقييم هذه الأطباق وإعلان الفائز منها، والواقع أني أمام هذه المسابقة لا أدري هل هي مسابقة للطلاب أو لأمهاتهم!! فمن الواضح تماما أن من سيعد هذا الطبق في المنزل هو الأم ولا أدري أية قيمة تربوية أو حتى معنوية سيجنيها «الطالب» في تقييم جودة طبخ والدته أو ربما أخته (أو حتى شغالتهم) ونتفق طبعا أن هناك بعض الأمهات لا يجدن الطبخ وسيلجأن إلى المطاعم لكي يفوز الابن العزيز في ذلك اليوم المفتوح. أتمنى أن يسعفني أحد بالقيمة التربوية أو حتى الإنسانية وراء مثل هذا النشاط العجيب الذي فعلا يخل بوقار المدرسة فقد تحولت إلى مكان يستهدف الأكل والمنافسة فيه مع أن مناهج مدارس الأولاد لا يوجد فيها تعليم طبخ أصلا! إن في هذا النشاط تناقضات صارخة تقدمها المدرسة للطالب دون أن تشعر ليتقبل بعد ذلك تناقضات مماثلة في المجتمع ويتعايش معها بل ربما يصبح هو جزء منها أو منشئا لإحداها يوما ما!
هذان مثالان فقط، ولا تنحصر التصرفات الاجتهادية غير الموفقة فيهما (مع جزمنا بسلامة النيات) لكنهما يمثلان استشهادا لعدد أكبر من التصرفات سواء تلك التي واجهها أحدنا على قياس ما تقدم ذكره أو تلك التي قد تظهر مستقبلا، ولكنها الجامع لكل ذلك هو انعدام القيمة التربوية التي تبني في الطالب مفاهيم ذات معنى، بل إن بعضها قد يزرع في ذاته شيئا من التصور الخاطئ ويبني توجها يتنافى مع الجدية والإيجابية. ولهذا فلابد أن يطرح كل مسؤول تربوي على نفسه هذا التساؤل: ما الذي يستفيده الطالب من هذا النشاط أو ذاك! أو على أقل تقدير يطرح السؤال البديل وهو: ما الضرر الذي يمكن أن يتركه هذا النشاط مثلا؟ وما نقصده بالمسؤول التربوي هو كل من تولى مسؤولية تربية وتعليم الطالب وقيادة أمره في المدرسة بدءا من المعلم ومرورا بمدير (أو قائد) المدرسة وانتهاء بكل من سيتخذ قرارا بالموافقة على نشاط ما خارج المألوف، ولابد وهو يعد إجابة مناسبة لمثل هذه الأسئلة أن يستصحب تفكيره آنذاك مفهوم «وقار المدرسة» ويجعله نصب عينيه ومنوط إدراكه وهو يسوق أي منطق لإجابة مثل هذه الأسئلة المهمة.
** **
- مدير عام تعليم سابقا