أ.د.صالح معيض الغامدي
يمكن عد سيرة عائشة المانع الذاتية « حدّ الذاكرة» (بيروت، دار جداول 2023) أهم سيرة ذاتية تصدر عن وعي نسوي واضح يهتم بسرد حياة امرأة سعودية شغلت قضية المرأة وتحريرها وتمكينها مجملَ سيرتها الذاتية.
وكان عماد هذا السيرة والمسيرة وصية أوصاها بها والدها ذات يوم في وقت مبكر من حياتها، «يا عائشة لا أريدك أن تكوني مثل أمك وجدتك، أريدك أن تتعلمي وأن تعلمي بنات وطنك» (40)، وقد تكرراستدعاء هذه الوصية في هذه السيرة مرارا، وظلت راسخة في إذن عائشة المانع طوال حياتها، تقف دافعة ومحفزة لها في كثير من مواقفها وتجاربها الحياتية.
وقد بدأ اهتمامها بالمرأة بنفسها هي وتكوينها وتعليمها وتشجيعها ودفعها الى الاستقلالية واتخاذ القرار الذي يرضي ضميرها ويتوافق مع قناعاتها. وقد كان الأب مساعدا ومساندا لابنته في جميع مراحل حياتها، حتى في الأوقات التي اختلفت معه ابنته فيها، وهي قليلة، ولكنها جذرية، وأقصد قرارها بالتخصص في علم الاجتماع، وكان والدها يريدها أن تتخصص في الطب، وقرارها السفر للدراسة الجامعية في أمريكا.
ولقد أشارت كثيرا إلى مدى دينها لأبيها في تعليمها وتشكيل هويتها الحياتية، وصورته تصويرا جميلا، تقول في مقدمة سيرتها، على سبيل المثال: « لقد تكونت هويتي الثقافية منذ طفولتي كما أرادها لي والدي، إذ علمني أن أكون صاحبة مبدأ في الحياة، جريئة في قول الحق مهما كانت عواقب الأمور، ثابتة الرأي إذا ما استدعى الموقف اتخاذ قرار لا تراجع عنه ولا أساوم عليه عندما يكون الحق إلى جانبي» (16).
سردت عائشة المانع سيرتها بطريقة كرونولوجية إلى حد كبير، وربما وجدنا بعض الاسترجاعات والاستباقات القليلة، ولكن النهج الرئيس هو النهج التاريخي التدرجي.
وللكاتبة طريقة لافتة في سرد سيرتها، فهي تسرد الأحداث في بعض الفصول، ثم تقوم في نهاية الفصل بعملية مراجعة تحليلية لما ذكرته في ذلك الفصل. وقد يتخلل هذه الأجزاء التحليلية قراءة حديثة من الكاتبة لأحداث حياتها وكأنها تحاول فهمها كما نحاول نحن القراء، وهذا ليس غريبا في عالم السيرة الذاتية، فعدد من كتاب هذا الجنس الأدبي يتعرفون على أنفسهم بصورة أعمق أثناء كتابتهم سيرهم الذاتية.
فصول السيرة:
وسيرة «حدّ الذاكرة» تتكون من مقدمة، وخمسة عشر فصلا تتوافق مع التدرج التاريخي الذي انتهجته، وملحق وثائقي.
فالفصل الأول « هذا أبي» يؤرخ لحياة أسرتها وبخاصة والدها وعمله مترجما في الديوان في عهد الملك عبدالعزير رحمه الله ومؤرخا كذلك، فقد ألف كتابا بالإنجليزية عن توحيد المملكة العربية السعودية وسيرة للملك عبد العزيز.
أما الفصل الثاني « نشأتي وبواكير الخير» فهو عن ولادتها ونشأتها في مدينة الخبر وظروف تلك النشأة وأسرتها، وكذلك تسرد فيه شيئا من طفولتها وعلاقتها بأفراد الأسرة. ولا تستطرد في الحديث عن الخبر وتطورها، نظرا لكثرة الكتابات حولها، تقول: « وعلى الرغم من أني قد عايشت، وعن قرب، الكثير من التحولات التي أحدثها النفط في الحياة العامة بالمنطقة الشرقية إلا أنني فضلت عدم التعرض لذلك في هذه السيرة، فقد تناول ذلك عدد من المؤرخين والباحثبن» (29)
أما الفصل الثالث « الطفلة المبتعثة» فتتحدث فيه الكاتبة عن سفرها مع والدها للدراسة في مصر وعمرها لما يتجاوز الثامنة وذلك في عام 1950م، وقد درست في كلية البنات الإنكليزية بالاسكندرية، وهي من أهم المحطات المهمة في حياتها، تقول:» فقد شكلت مفصلا فارقا في حياتي، وأساسا محوريا لا يمكن أن أتجاوزه حينما أستحضر هويتي وتشكل شخصيتي» ( 51). وفي هذا الفصل تسرد أيضا تجاربها الحياتية خلال السبع سنوات ( 1950-1957) التي أقامتها في مصر بشيء من الحميمية والحنين والامتنان.
وفي الفصل الرابع « إلى الوطن وأول مدرسة بنات» تسرد الكاتبة جهودها لتعليم الآخرين وبخاصة الفتيات تنفيذا لوصية والدها التي أشرنا إليها سابقا، وكان عملها هذا تطوعا بعد أن عادت من مصر وقد أكملت الصف الأول المتوسط إثر الخلافات السياسية بين المملكة ومصر في ذلك الوقت. وبعد تعديل مؤهلاتها الدراسية في السعودية وإكمال دراستها الإبتدائية وفق المنهج السعودي، تعينت مديرة لأول مدرسة حكومية للبنات في الدمام وهي في سن الرابعة عشرة، رغم اعتراض بعض أفراد أسرتها على هذا العمل، ولكن والدها كان مساندا لها كعادته.
أما الفصل الخامس « لبنان …لطريق العلم بقية» فتسرد فيه الكاتبة تجربتها الدراسية والحياتية في لبنان بعد أن قررت إكمال دراستها فيها، وقد كان هذا منعطفا حاسما في حياتها، تقول: « تعلمت في لبنان الكثير في كل شيء نظريا وميدانيا فلبنان هو صاحب الأثر الأبرز في حياتي « (74).
درست في المدرسة الإنجيليّة المرحلة الثانوية وذكرت تفاصيل حياتها الدراسية وذكرياتها في لبنان التي كانت تحت رعاية والدها،» ذكرياتي في لبنان لا تحصى، إلا أن العامل المشارك فيها كلها هو وجه أبي، الذي كان يرافقني في كل مسار، أو اتجاه، أو فكر، أو موقف، أو لحظة. كان الموجه، والمرشد، والمربي، والأب، والأخ، والصديق» (77).
أنهت الثانوية عام 1965م والتحقت بالجامعة وقبلت في تخصص علم الاجتماع، الأمر الذي أغضب والدها الذي كان يرغب في دخولها كلية الطب. وسردت كذلك في هذا الفصل ظروف لقائها بوزير المعارف السعودي الذي مكنها من الحصول على بعثة للدراسة في أمريكا، رغم عدم تأييد والدها.