د.عبد العزيز سليمان العبودي
«وفاتني الفجر إذ طالت تراويحي»، هكذا همس الشاعر محمد الثبيتي بحكمة تختزل كتاباً كاملاً، وكأنها مرآة تعكس صراعاتنا اليومية بين ما نحب وما يجب، بين السُّنة والفريضة. الفجر هنا ليس مجرد صلاة فرض أو نور الصبح، بل هو رمز لبدايات لا تُعوَّض، ولحظات لا تنتظر، وواجبات لا ينبغي تأجيلها. أما التراويح، فهي لحظات الصفاء والتأمل، تلك التي نغرق فيها حتى ننسى الزمن، وتأسرنا بلذّتها فنمضي معها متناسين صوتًا داخليًا يذكّرنا بما هو أعظم.
كم مرة في حياتنا طالت تراويحنا حتى نسينا الفجر الذي ينتظرنا؟ ننشغل بالأمور التي تبهجنا، نعيش في تفاصيل صغيرة تحلو لنا، لكنها تسحبنا ببطء بعيدًا عن أهدافنا الكبرى. إنها تلك اللحظات التي تسرق منا الإنجاز، كمثل بحر هادئ يخفي في أعماقه تيارات جارفة. وربما نبرر لأنفسنا، فنقول إن ما نفعله ذو قيمة، وإن الاستغراق في تفاصيله دليل حب وإخلاص. ولكن، هل يكفي الحب وحده إذا فاتنا الموعد؟ وهل ننعم بباقي الحياة إذا تأخرنا عن إشراقها الأول؟
الفجر في معناه الأعمق هو البداية، ذلك النداء الخفي الذي يحثّنا على الانطلاق، على التوجه إلى حيث يجب أن نكون. قد يكون في صلاة تأخرت، أو في مهمة أهملناها، أو حتى في حلم راودنا لسنوات لكننا تركناه خلف تراويح لا تنتهي. كل فجر يفوت هو فرصة ضاعت، وكل لحظة تأخير تضعف نورنا الداخلي، ذلك النور الذي يوجهنا نحو ما يستحق. وفي كل خطوة من حياتنا، تتجلى هذه المعاني. كم مرة غرقنا في محادثة ممتعة حتى نسينا مسؤولية تنتظرنا؟ كم مرة استسلمنا لشاشة هاتف تسرق ساعاتنا، بينما أحلامنا تنادينا من بعيد؟
يقول الله تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (التوبة: 19). وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فسأله النبي: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، فقال عليه السلام: «ففيهما فجاهد» (متفق عليه).
ويتبين من خلال الآية الكريمة والحديث الشريف تفاوت الأعمال في الأولوية، رغم أهميتها جميعًا. ولذلك تبرز قيمة تحديد الأولويات وترتيبها خلال مسارنا الزمني، ووجودنا في الحياة من خلال تحقيق التوازن فيما نقضي به أوقاتنا.
وبذلك يمكن أن نعيش متعنا دون أن ننسى واجباتنا، وأن نستمتع بلحظات المساء دون أن تغيب عنا إشراقات الفجر. فالحياة، في جوهرها، سلسلة من صلوات الفجر والتراويح، لكن الحكمة تكمن في إعطاء الفجر الأولوية، وأن نصحو قبل فواته، فنعيد ترتيب أوقاتنا على وقع أهم ما فيها. فلا أجمل من صباح تُشرق فيه شمس الإنجاز، ولا أبهى من روحٍ نهضت قبل فوات الأوان.
ومع تفاوت المهام في أهميتها، فإن الإنجازات وتحقيق الأهداف، حتى لو كانت صغيرة، يعطيان لحياتنا قيمة. فحينما يقسو المؤلف على نفسه بغية الجودة فلا يظهر له كتاب، وحينما يثقل الأستاذ كاهل طلابه بالشكل دون المضمون، وحينما يطلب الأب من أبنائه الالتزام بالعادات ويغفل العبادات، يبدأ الانحياز عن الجوهر والأساس إلى أمور قد تبدو مهمة، ولكن الإفراط فيها يضيّع الأهم. وفي النهاية، مع كل فجر جديد لنا فرصة أخرى لنبدأ، وفي كل صباح وعدٌ بأن الحياة ما زالت تنتظرنا، وأن الضوء لن ينطفئ لطالبه بروح مشتاقة وعقل يقظ.