سهام القحطاني
(كل معرفة هي علم) لأن وقوع مبدأ المعرفة لا يتحقق إلا بشرط الصدقية الذي هو جذر ما هو حقيقي باعتبار التوثيق.
لكن هذا الاقتضاء بكيفية الارتباط هو إشكاليّة في ذاته وخاصة عندما نطبقه على التاريخ.
عندما ذهب «فيكو» في رؤيته للتاريخ بأنه «علم»، انطلقت هذه الرؤية من «طبيعة الإنسان» القابلة لتكرار الأفعال ذاتها، إذا وضعت في المواقف ذاته وتحت ضغط ذات الظروف والمؤثرات، أو كما يسميها «أرنولد توينبي «التحدي والاستجابة».
هذا التحدي والاستجابة يتجلى عند ماركس في صورة «الصراع البشري» الذي تتحكم فيه طبيعة الإنتاج وتطوره في كل مجتمع، وبالتالي فيمكن قياس نمو المجتمعات عبر التاريخ وفق توافر إمكانيات الإنتاج وتطور وسائلها؛ باعتبارها هي المنظم للعلاقات الوظيفيّة بين أفراد كل مجتمع ومصدر صراعهم، وهي أيضاً مسطرة قياس التقدم التاريخي عند المجتمعات.
وتؤسس الرؤية الماركسية للتاريخ أن «المادة» تسبق الأفكار والوعي باعتبارها هي الجوهر، فالظروف كونها تمثل جانباً من المادة هي التي تدفع الإنسان إلى التفكير في كيفية استثمارها لمصلحته من خلال «سلسلة إنتاج»، تتوافق مع خصائص تلك الظروف والاستفادة منها في تطوير حياته وتأسيس علاقات وأخلاقيات جديدة، تتوافق مع ذلك المسار لاستثمار الظروف أو كما تسميها «علاقات الإنتاج».
هذه الرؤية تتناقض مع رؤية هيجل بأن الفكر هو الجوهر وبذلك يسبق المادة في صورة الاحتياج، لكنه يتفق معه في فكرة «الصيرورة» ولكن باعتبار التطور المستمر لأدوات الإنتاج وطرقه، وهو التطور الذي يحمل التطور المتصاعد للمجتمعات، ولذا يرى ماركس أن التاريخ «يتحرك إلى الأمام».
وخلاصة المادية التاريخية الماركسية أن الإنتاج وأنماطه هو الذي يتحكم في نشأة المنظومة الاجتماعية والأخلاقية والفكريّة والقانونية للمجتمعات وهو مصدر تطورها عبر التاريخ، وبذلك فإن دراسة السلوك التاريخي للإنسان لابد أن ينطلق من طبيعة الإنتاج التي كانت تتحكم في كل عصر، ولذا غالباً ما يُنسب كل عصر تاريخي إلى طبيعة الإنتاج الذي سيطر على ذلك العصر، مثل «عصر الصيد، عصر الزراعة - عصر الصناعة» حتى وصلنا إلى عصر «الذكاء الاصطناعي».
هذه «المادية التاريخية» في الرؤية الماركسيّة تقابل الأسلوب العلمي لدراسة التاريخ. وبذلك يُمكن وضع منهجية علمية لطبيعة الإنسان من خلال دراسة سلوكها سواء البشري أو الإنتاجي وطرائقه عبر التاريخ.
إن دراسة التاريخ تتجاوز «سرد ورواية الوقائع والأحداث»، بل هي منهج علمي يقوم على «الطريقة التي تقدم بها تلك السردية» و»آليات وصفها» و»تعليل حدوثها» و»تحليل نتائجها» و»استنتاج القوانين».
إن هناك من ينكر تصنيف التاريخ كعلم بحجة أن مادته غير ثابتة وغير متجددة، ولا يمكن استخلاص القوانين منه، وهي خصائص تختلف عن «مادة العلوم»؛ فمادة التاريخ لكونها فعلاً ماضياً لا يُمكن إخضاعها لتجربة حيّة توثق اتجاهاً مخصوصاً، وبالتالي لا يُمكن إطلاق تعميم يُشكل قانوناً علمياً.
جاء الرد على هذا الرأي ممن يؤيدون «علميّة التاريخ»، بأن العلم لا يقتصر على العلم التجريبي المختبري، بل هناك أنواع من العلم لا تخضع لمعايير العلم التجريبي مثل علم الفلك وعلم الأرض.
مع العلم أن «فيكو» كان يرى إمكانية تحويل مادة التاريخ إلى مادة مختبريّة عندما تمزج تلك المادة بالفلسفة ولغات الأمم وكيف تحكمت اللغات في أنماط حياتهم، وباعتبار تطور اللغة مقياساً من مقاييس تطور حضارة الشعوب، وغالباً ما تكون الفنون الأدبية مؤشرات للتطور التاريخي لأي لغة، وهو ما يجعل اللغة هنا «مصدر التجربة الحيّة» لمادة التاريخ.
كما يرى أن الحركة اللولبيّة للتاريخ تمنح كل مرحلة مساحة ارتقاء عن سابقتها، وهو ما يوفر خاصية التجديد لكل مرحلة وهي خاصية تتوافق مع شرط «مادة العلم».
كما يذهب مؤيدو علميّة التاريخ أن الفيصل بين ما هو علم وما هو ليس بالعلم ليست قدرة مادته في التحول إلى تجربة حيّة، بل قدرته على تشكيل أسلوب ومنهج علميين.
وقد توصل «هرشنو» في كتابه «علم التاريخ» بأن التاريخ هو علم نقد وتحقيق». ويرى أن التاريخ يملك خصائص تؤهله ليكون علماً، فالتاريخ يملك مادة علمه وموضوعه وهي مجموع الوقائع الماضية من آثار مادية وسجلات وتقاليد، وهي الحقائق المحسوسة الحاضرة التي ينصب عليها عمل المؤرخ. وبذلك فالتاريخ كما يرى «قد يُعين على جلاء الحاضر وتوضيحه».
إننا نتعلّم من التاريخ ما قد يُعيننا على فهم السلوك الإنساني وقابليته للتطور «قياس الحاضر على الماضي والتنبؤ بالمستقبل»، وهو ما قد يُعيننا على إمكانية التحكم في صناعة برمجة جديدة للفكر والسلوك الإنساني تحميه من الوقوع مرة ثانية في أخطاء أسلافه.
إن التاريخ هو معرفة تطور الطبيعة الإنسانية ولذلك سيبقى دوماً تحت مظلة العلم.