عبدالله العولقي
لا يكاد يُذكر أبوفراس الحمداني ( 932م - 968م ) إلا ويتبادر إلى الذهن رائعته الشهيرة (أراك عصي الدمع) مع أن ديوانه الشعري يعجُّ بقصائد تُعدُّ من عيون الشعر العربي لعلّ أهمها رائعته (أما لجميلٍ عندكنّ ثوابُ) والتي هي موضوع مقالنا اليوم كواحدةٍ من أهم أعماله الشعرية وأروعها فنياً ولغوياً وإبداعياً، يقول الصاحب بن عباد: بُدئ الشعر بملكٍ وخُتم بملكٍ، ويقصد امرئ القيس وأبا فراس الحمداني، وقد عاش شاعرنا الكبير حوالي 36 سنة فقط، وعلى الرغم من قصر تجربته الشعرية إلا أنها تُعدُّ تجربة ثرية وإبداعية تستحق الوقوف عندها، وترتكز القصيدة على هيكل خطاب العتاب الحاد الذي وجهه الشاعر لابن عمه الأمير سيف الدولة أثناء وجوده أسيراً مسجوناً في قلعة القسطنطينية عند الروم حيث كتب القصيدة وهو في ذروة انفعاله الذاتي وتدهور حالته النفسية بعد تباطؤ الأمير عن افتدائه من الأسر!!.
لو تحدّثنا عن معادل معنوي لحياته الشخصية لوجدناه يكمن في سوء الحظ، فأدبياً عاش في زمن المتنبي تلك الشمس الساطعة التي أضاءت فحجبت أنوار الكواكب الأخرى، ولو قُدِّر لأبي فراس أن يعيش بهذه التجربة الشعرية الثرية في زمنٍ غير عصر المتنبي لكان له شأن آخر -والله أعلم-، وعسكرياً تم أسره مرتين من قبل قوات الروم على الرغم من شجاعته وفروسيته النادرة، وسياسياً فشل في الوصول إلى الحكم بعد عودته من الأسر وموت الأمير سيف الدولة بل إنه قُتل في معركته الأخيرة التي حاول فيها أن يستولي على الحكم من الأمير أبي المعالي ابن سيف الدولة!!.
كان مجلس سيف الدولة في حلب يعجُّ بنخبةٍ متميزةٍ من الأدباء والفقهاء وعلماء اللغة والفلسفة، وكان المتنبي هو الرقم الأول في ذلك المجلس شعراً وإبداعاً ، وحينها كان أبو فراس يمقت المتنبي لما يرى في نفسه من سمو الأنويِّة والكبرياء الشعري الذي كان يبديه في المجلس أمام الأمير، فكان يرى أنّ تكثيف الأنا المتفخمة عند أبي الطيب لا تليق في خطابٍ يقدمه الشاعر تجاه أميره، ورغم هذا المقت الظاهر إلا أن هناك إعجاباً كامناً في نفس أبي فراس تجاه المتنبي لم يُصرِّح به أبداً، ولعلّ في هذه القصيدة (أما لجميلٍ عندكنّ ثوابُ ) سنرى أثر المتنبي جلياً على قصيدة أبي فراس.
لو تأملنا خط سير القصيدة لوجدناه يتحرك من البداية بالعتاب الحادّ للأمير ليتحوّل بعدها إلى الأنا المتعالية بسمات الملك والأمارة وأخلاق الفرسان الذين جمعوا بين السيف والقلم لتعود القصيدة في نهايتها - بعد أن يصل الانفعال الشاعري إلى ذروته القصوى- إلى خطاب العتاب المهذب الراقي للأمير مرة أخرى ( العتاب الحاد - الأنوية المتخمة باستعراض الأخلاق الملكية والتجربة الذاتية في الحياة - العتاب المهذب) ، إن أهم ما يميز هذه القصيدة هو الإبداع الشعري بكل ما تعنيه العبارة من معنى، فهي ذروة التجربة الشعرية في ديوان أبي فراس، وتكاد تصل إلى درجة أهم إنتاجه الأدبي مع صاحبتها
( أراك عصي الدمع ).
لو شرّحنا تحليلياً هذه الأنا الملكية داخل خطاب الشاعر لوجدناها تحتل الجزء الأكبر من القصيدة، وقد وضعها الشاعر بين عتابين ابتدأ به القصيدة ثم أنهاها به، وهنا يظهر كما قلنا أثر المتنبي جلياً على شعر أبي فراس، سواءً من حشد الأنويّة أو استعراض التجربة والخبرة في فهم النفس الإنسانية والتعامل مع البشر، ففي زمن سيف الدولة انتشرت الفلسفة الإغريقية بين عموم رجال الثقافة والأدب بل إن الفيلسوف الكبير الفارابي نفسه كان أحد رواد مجلس الأمير سيف الدولة ، فكانت الحكمة والتجربة في الحياة وفهم أسرار النفس معياراً ثقافياً في ذلك الوقت على مكانة الأديب أو الشاعر، وهذا ما جعل المتنبي يتبوّأ المكانة العليا في ذلك الزمان، ولذا نجد أنّ أبا فراسٍ في هذه القصيدة ينافس المتنبي بقوة وربما يتفوّق عليه في تماسك القصيدة فنياً ولغوياً، ففيها يستعرض مهاراته الفكرية والثقافية في فهم النفس الإنسانية وأنها حتى تصل إلى المراتب العليا من السمو والإمارة والسؤدد فإنّ عليها أن تجيد التعامل بأخلاق الملوك مع الآخر (المرأة والصديق والناس عموماً) بالإضافة إلى كيفية التعامل مع المحن والظروف الصّعبة، وهذا ما تعرّض له أبو فراس الحمداني بالتفصيل في هذه القصيدة، فنجده يقول إنّ نفسه الأبية لا تسمح لقلبه أن تمتلكه الفتاة الحسناء وتتلاعب بمشاعره وأحاسيسه، أي أنه لا يقع في فخ عشق المرأة بسهولة ويترك مهامه الجسيمة:
ولا تملك الحسناء قلبي كله
وإن شملتها رقةٌ وشبابُ
وأجري فلا أُعْطي الهوى فضْلَ مِقْوَدي
وأهفو ولا يَخفى عليّ صوابُ
لينتقل بعدها إلى الخِلِّ والصديق:
إذا الخِلُّ لم يهْجرك إلا ملالةً
فليس له إلا الفراق عتابُ
لترتفع الأنا بعدها في المرتبة حينما تصل إلى كيفية تعامله الراقي والملكي مع المحن والظروف الصعبة:
صبورٌ ولوْ لمْ تبقَ مني بقيةٌ
قؤولٌ ولو أنّ السّيوف جوابُ
وقور ٌوأحداث الزمان تنوشني
وللموت حولي جيئةٌ وذهابُ
لتصل تجربته الشخصية إلى منتهاها في الخبرة المعيشية ومعرفة الناس والمجتمع:
وألحظ أحوال الزمان بمقلةٍ ٍبها
الصِدْقُ صِدْقٌ والكِذَابُ كذابُ
وهذه الذروة الفلسفية تقتضي عدم الشمولية بل إنها تتضمن معنى النسبيّة حول الحُكْم على أخلاق الناس، وهذه منتهى الدقة العلمية عندما تتلبّس لفظ الاحتمال (ربّ - إلا أقلهم - ما كُلُّ):
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم
ذئاباً على أجسادهنّ ثيابُ
وما كل فعالٍ يُجازى بفعله
ولا كُلُّ قوَّالٍ لديّ يُجابُ
وربَّ كلامٍ مرّ فوق مسامعي
كما طنّ في لوح الهجير ذبابُ
ليتحوّل بعدها إلى الشكوى الصريحة من تبدل الحال، وهذا يدلُّ على أنّ نفس الشاعر قد وصلت إلى قمة التناقضية في المشاعر النفسية، فماضيه الذي يذكره في شعره ويملؤه بالأنوية الملكية يقابل حاضره في الذلِّ والمهانة والأسر!!.
إلى الله أشكو أننا بمنازلٍ
تحكم في آسادهن كلابُ
بعد هذه الأبيات ترتفع درجة الانفعال الشعري عند أبي فراس عندما يضيق بقضبان السجن وقيوده، وهنا نتفهم تفسير هذه الأبيات في ضوء ثنائية السكون / الحركة، فقد عاش أبو فراس حياته أميراً ثرياً يعشق ركوب الخيل فينطلق به لغزو بلاد الروم ويعشق الحرية فيسير حيثما أرادت نفسه (الحركة)، لكنه الآن أسيراً حبيساً كسيراً في سجن القسْطنطينية أي جامداً عاجزاً عن الحركة تكبله القيود في رجليه (السكون)، هذا التغير الذي طرأ على حياة أبي فراس من الحركة الحرة إلى السُّكون الجبري جعله يحنُّ في أنويِّته إلى تلك الأيام الخوالي (الحركة)، فنجده يشكو أيامه ولياليه التي يقضيها في دياجير الحبس:
تمرُّ الليالي ليس للنفع موضع
لديّ ولا للمعتفين جنابُ
ولا شُد َّلي سرجٌ على ظهْر سابحٍ
ولا ضُربتْ لي بالعراءِ قِبابُ
ولا برقتْ لي في اللقاء قواطعٌ
ولا لمعتْ لي في الحُروب حِرابُ
أيْ أنه يحاول أن يُخْرج نفسه من فزْعة (السكون) بتذكار (حركة) الماضي:
ستذْكرُ أيّامي نميرٌ وعامرٌ
وكعبٌ على علّاتها وكلابُ
ويستمرُّ في استعراض أنويّته الملكية وكأنه يقول لابن عمي إن مثل أبي فراس صاحب النفس الأبية لا ينبغي أن يكون مكبلاً في هذا المكان المظلم:
أنا الجار لازادي بطيءٌ عليهم
ولا دون مالي للحوادث بابُ
ولا أطلبُ العوراء منهم أصيبها
ولا عورتي للطالبين تُصابُ
وما زِلتُ أرضى بالقليلِ محبةٌ
لديك وما دون الكثير حجابُ
ليختم القصيدة بالعتاب المنطقي وقد أحسن إبداعاً حينما جعله بصيغة التساؤل والتعجب:
أمِنْ بعْد بذلِ النفسِ فيما تريده
أُثابُ بمرّ العُتْبِ حين أُثاب؟!
وهنا ربما نصل إلى معادلة رياضية صاغها أبو فراس بشكل مهذب تنص على أن: مدح الذات الملكية (الأنا) + العتاب الحاد = الهجاء المبطن، وهذه المعادلة ربما استوحاها من تجربة أبي الطيب المتنبي في مجالس سيف الدولة كما سنرى بعد ذلك!!.
يختلف عتاب نهاية القصيدة عن بدايتها، فالعتاب الأول الذي ابتدأ به القصيدة فيه حدّة شديدة تنمّ عن الوجع والألم الذي يختزنه في صدره، أما العتاب الثاني ففيه اعتذار ينمُّ عن محبته الصادقة لابن عمه سيف الدولة، وهذا يذكرنا بآخر قصيدة أنشدها المتنبي أمام سيف الدولة وكانت بحضور أبي فراس نفسه كما تؤكد الروايات:
واحرَّ قلباه ممن قلبه شَبِمُ
ومنْ بحالي وجسْمي عنده سَقَمُ
وهي قصيدة لوّح فيها المتنبي بالرحيل عن أميره، وفيها عتابٌ حادٌ لسيف الدولة، وفي نهايتها أكّد هذا المعنى بأن خطاب العتاب ماهو إلا صادرٌ عن محبة صادقة:
ماليْ أكتم حبّاً قد برى جسدي
وتدّعي حُبّ سيف الدولة الأمَمُ
إلى أن يعتذر في آخر القصيدة عن قسوة الخطاب:
هذا اعتذاري إلا إنه مِقةٌ
قد ضُمِّن الدُّرُ إلا إنه كَلِمُ
وفي قصيدة (أما لجميلٍ عندكن ثواب) يظهر تأثر أبي فراس بأسلوب المتنبي إذ ختم قصيدته بعتاب أيضاً ينم كذلك عن المحبة والولاء، وفيه شيء من الاعتذار عن قسوة الخطاب أيضاً، كما نجد فيها تكثيف الأنوية الملكية في خطابه للأمير تلك الأنوية التي كان ينقد المتنبي عليها في الماضي حين كان يُردِّدها في قصائده أمام سيف الدولة، ومن الجدير بالقول: إن هذه القصيدة البائية هي آخر قصيدة وجّهها الشاعر لابن عمه الأمير، وهي قصيدة من بحر الطويل الذي يبحر فيه الشعراء الكبار، بينما عدد أبيات هذه القصيدة حوالي 45 بيتاـ وهذا هو متوسط قصائد أبي فراس المطوّلة، والمتنبي لا يبعد عنه كثيراً في النّفَس الشعري، وفي هذا العتاب الذي ختم به قصيدته يصل الانفعال الشعري عند أبي فراس إلى ذروته حيث تصنف هذه الأبيات من أجمل وأروع ما قيل من شعره من التذلل للحاكم و ربما أجمل ما قيل في الشعر العربي كله في هذا الباب، وهذا ما جعل الإمام ابن تيمية- رحمه الله- يعلق على هذه الأبيات ويقول: إن هذا التذلل لا يصح أن يقال إلا في جناب الله سبحانه وتعالى، وإنه يتعبده عزّ جلاله بهذه الأبيات في سجوده:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ
وكل الذي فوق التراب ترابُ
والبيت الأخير مأخوذ بوضوح من بيت المتنبي:
إذا نلتُ منك الودّ فالمالٌ هيّنٌ
وكل الذي فوق التراب تراب