أ.د. محمد خير محمود البقاعي
إن من يقرأ بعين المؤرخ المنصف المنطقي تاريخ الدولة السعودية الأولى في محيط الجزيرة العربية في عهد الأئمة محمد بن سعود»1090-1179هـ/1679-1765م»، وعبد العزيز بن محمد «1133هـ-1218هـ/1720م - 1803م»، وسعود بن عبد العزيز «1161هـ - 1229هـ/1748م-1814م»، وعبد الله بن سعود «1185-1234هـ/1771- 1818م»، رحمهم الله، يتضح له أن هذه الدولة كانت الأقوى والأكثر أمنا وأمانا بين كل من كانوا يحيطون بها من إمارات أقواها دولة بني خالد في الأحساء، ولما لجأ إلى الدرعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب «1115 - 1206هـ/1703م - 1791م»، رحمه الله، كان يعلم بذلك، لأن منطق الأشياء أن يلجأ المطارد إلى القوي المحافظ على أمن دولته وأمانها.
لقد كانت الدولة السعودية ترتقي في السيطرة على المساحات الشاسعة بعد أن أمنت الخطر الداخلي، وكانت رؤية الإمام محمد بن سعود أوسع من الانتماء القبلي، وأكثر إدراكا لأهمية الأمن والأمان، واتباع عقيدة تبتعد عن الكهنوتية والتوجه إلى غير الله بغير الاتصال الذي يليق بالخالق وأنبيائه.
كلما قرأت أتأكد من فرضيتي أن الحملة على الدولة السعودية الأولى كانت حملة غربية، وأتساءل هل كان محمد علي ألبانيا مسلما، تظاهر باعتناق الإسلام للانضمام للجيش العثماني الذي اتجه إلى مصر شأنه شأن كثير من أبناء تلك المناطق الموزعة اليوم بين ألبانيا وبلغاريا واليونان وتركيا الذين تولى بعضهم الولاية في بعض مناطق الجزيرة العربية إبان سيطرة العثمانيين عليها بادعاء الإسلام؛ وهي حيلة لجأ لها الغربيون لاختراق الأماكن المقدسة والبلاد الإسلامية.
إن مسار محمد علي إلى السلطة في مصر لم يكن بالتأكيد مسارا فرديا، ولم يكن القضاء على المماليك من بنات أفكاره، ولكن كان وراء ذلك كله خطط غربية ودبلوماسيون ناشطون من فرنسا وبريطانيا وبقية الدول الأوروبية. وتأمل معي ما يقوله موريس تاميزييه المسيحي الفرنسي الذي طلب محمد علي من شريف مكة أن يسمح له بدخول مكة المكرمة يقول موريس تاميزييه Maurice Tamisier الذي زار جدة عام 1250هـ/1834م، موفدا من الجمعية الجغرافية الفرنسية لجمع المعلومات عن الظروف الطبيعية لشبه الجزيرة العربية وكان يريد زيارة مكة المكرمة فأصدر محمد علي أوامره للسلطات الحجازية لتسهيل مهمة الرحالة الفرنسي وجماعته لزيارة مكة المكرمة.
Marice Tamisier; Voyage En Arabia, Paris, 1840, P. 102.
موريس تاميزييه، رحلة إلى الحجاز، باريس، 1840م، ص 102. هذا النفوذ الفرنسي كان مصدره بالتأكيد الإسهام الفرنسي في الحملة على الدولة السعودية، وهو نفوذ جعله يتجاوز المحظورات الدينية المتعلقة بالأماكن المقدسة.
وأقدم اليوم في سياق هذه الفرضية هذه الشذرة التي أترجم فيها تقريرا لم يترجم من قبل يعزز ما نحن بصدده من طرح.
أبدأ في هذا السياق بالتمييز الجلي بين شخصيتين يحملان اسما متقاربا في النطق والكتابة بالفرنسية؛ أقصد الضابط جوزيف فيسيير والضابط ألكسندر فايسيير اللذين تولى التفريق بينهما المؤرخ والعالم الفرنسي جبريل جومار في تقرير سبقت الإشارة إليه، وأفرده اليوم بتوضيح تولاه السيد جومار لشعوره بمسألة الخلط بينهما من وقت مبكر في تاريخ الوجود الأجنبي في مصر والسودان والجزيرة العربية بما في ذلك اليمن.
كانت شخصية الكابتن الفرنسي فيسيير القائد الحقيقي لما يسمى حملة إبراهيم باشا على الدولة السعودية الأولى محط اهتمامي منذ أن ترجمت كتاب مانجان «تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية من كتاب تاريخ مصر في عهد محمد علي لفيلكس مانجان».
وسعدت بتغريدة للأستاذ الدكتور المترجم البارع النشيط بشير زندال من اليمن الشقيق/جامعة ذمار الذي قال عن كتاب أرنو عن مملكة سبأ الذي نشر في كتاب واحد مع رحلة أرنو وفايسيير إلى مصر والسودان قال:
«المقدمة التي كتبها ألكسندر دوما، وهو من هو في الادب الفرنسي، ستجعل للكتاب قيمة أكبر، كما أن أراءه التي فصلها وبررها في أهمية وجود تحالف بين ملك فرنسا حينها مع الإمام السعودي له أهمية بالغة في حضور الدولة السعودية الأولى لدى المثقفين الفرنسيين في القرن التاسع عشر».
فعقبت بالتمييز بين جوزيف فيسيير وألكسندر فايسيير.
فقال في تغريدة أخرى: «…انتهيت للتو من ترجمة الجزء الأول من كتاب «توماس» جوزيف أرنو (رحلة في بلاد ملكة سبأ، ورحلة إلى مصر)، الذي كتبه ارنو وحده، وأجلت رحلته الخاصة مع «ألكسندر» فيسيير (الصواب: فايسيير) إلى مصر، لأنها ملحقة على الكتاب.
وعقبت على تغريدته بالقول: إن المقدمة التي كتبها الأديب والمؤرخ الفرنسي الكبير ألكسندر دوما Alexandre Dumas 1802-1870م
كانت لكتاب الضابط والمغامر ألكسندر فايسيير Alexandre vayssière الذي كان نشاطه بين عامي 1845- 1880م وعنوانه: «رحلة إلى مصر والسودان».
أما الضابط جوزي ف فيسيير Le Commandant VAISSIERE(1816-1835) الذي عاش بين عامي 1736- 1837م فهو الذي كان الركن الأساس في الحملة على الدرعية. ولما بينت ذلك رد الأستاذ الدكتور بشير بالقول: «الحقيقة؛ صفحة الويكبيديا في النسخة الفرنسية جعلتهما شخصًا واحدًا وهو ما جعلني أعتقد ذلك.
وقد بحثت عن أي معلومة عن مشاركته في حملة إبراهيم باشا ولم أجد، ما عدا جملة تذكر ذلك دون مرجع في الويكيبيديا» والحقيقة أنهما رجلان مختلفان كما سنبين.
إن أوفى المعلومات وأدقها عن الرجلين ومسيرتهما في الحرب والرحلة مما لم يسبق نشره ما زودني به الباحث الطلعة الأستاذ سعود العبد اللطيف هو تقرير نشره المستشرق الفرنسي Guémard, Gabriel (1878-1937) جبريل غيمار( جومار) الذي توفي في القاهرة. والتقرير بعنوان:
DE L” ARABIE AUX DEUX NILS.Le Commandant VAISSIERE (1816-1835)
et l»Adjudant-Major VAYSSIERE (1845-1880 REVUE DE L’ HISTOIRE DES COLONIES FRANCAISES Tome XXII 1929. PP 147-171.
«من بلاد العرب إلى النيلين (يقصد مصر والسودان) الضابط «جوزيف فيسيير» نشاطه بين عامي 1816-1836م. أما الضابط والمغامر «ألكسندر فايسيير، نشاطه بين عامي 1845-1880م».
ونشر التقرير في مجلة؛ تاريخ المستعمرات الفرنسية، المجلد 22، 1929م العدد 68، ص 147-171. وعندما أصدر المؤرخ والدبلوماسي الدكتور موريس بلان كتابه العجيب الذي صدر بالفرنسية منذ بعض الوقت بعنوان:
ALEXANDRE DUMAS Récits d’Arabie ألكسندر دوما، سرديات بلاد العرب، Louis Blin Récits présentés et annotés par
= سرديات قدمها وعلق عليها لويس بلان، دار نشر لارماتان L’Harmattan، باريس، 2022 م. وفيه حديث وتعاليق على مقدمة ألكسندر دوما عن فايسيير الرحالة…..
والحديث عن ألكسندر فايسيير في مقدمة ألكسندر دوما التي نشرها الدكتور لويس بلان فيه حديث عن علاقة هذا الأخير أيضا بما ذكرناه من نفوذ فرنسي كان يسهم في إدارة شؤون دولة محمد علي في مصر التي كانت مزرعة للنفوذ الفرنسي والغربي، ولم يكن انتماؤها للدولة العثمانية إلا مسوغا يسوغ به تدخل الغرب في الجزيرة العربية وأماكنها المقدسة دون أن يثير حفيظة المسلمين.
في المقدمة المذكورة يقول عن جان ألكسندر فايسيير(1817-1861): إنه ولد في إسباليو، في منطقة الأفيرون Espalieu (Aveyron)، كان أبوه تاجرا، ولما بلغ أشده رحل إلى باريس، وهناك نشر مقالات متنوعة في مجلات مختلفة؛ منها: المجلة الكونية، ثم التحق بالجيش متطوعا في عام 1840م، وخدم في الجزائر حيث تعلم العربية. ولما تحرر من التزاماته العسكرية سافر في عام 1845م إلى مصر حيث عمل في جيش محمد علي، وهناك التقى في الإسكندرية توماس جوزيف أرنو Thomas Joseph Arnaud
وهو صيدلي ورحالة، ركز جهوده عام 1843م في استكشاف «صرواح» «ومأرب» عاصمتي دولة سبأ، وكان أول رحالة أوروبي يصل إلى مأرب، العاصمة الأسطورية لملكة سبأ وسجل مشاهداته كتابة ورسماً عن سد مأرب، ومحرم بلقيس (أو معبد إلمقه). ونسخ حوالي 56 نقشًا قديمًا نشرها عام 1845م فلجانس فرينل
Fulgence Fresnel (1795 - 1855م) في كتابه «بحوث في النقوش الحميرية»؛ وكان قنصل فرنسا في جدة، ومترجما، ومستشرقا، وعالم آشوريات. لقد أعجب ألكسندر دوما بشخصية أرنو فقال: «هل يصح القول: إنني، دون أن أدري، ذهبت على أثره إلى سبأ بحثا عن ظله؟». وهذه الرحلة هي التي أشار الأستاذ الدكتور الباحث والمترجم بشير زندال أنه انتهى من ترجمتها كما ذكرت. وكان أرنو قبل رحلته إلى مأرب قد عاش في القاهرة، ووصف بالتعاون مع رفيق رحلته ألكسندر فايسيير Alexandre Vayssière, الحياة اليومية في عصر محمد علي.
ويقول المؤرخ وناشر «سرديات ألكسندر دوما» إن ناشري رحلة أرنو إلى مأرب لم يرفقا بها، دون وجه حق، «الرحلة إلى مصر» مع أن مؤرخا وكاتبا كبيرا مثل ألكسندر دوما أشار إلى الفائدة التي يجنيها قارئ تلك السرديات، ناهيك عن طرافتها، وكان يراها مشوقة ومفيدة خصها بمقدمة طويلة رسم فيها بالكلمات لوحة لصاحبَيْ الرحلتين المقدامين، وتغنى بما اكتشفاه من عوالم جديدة. وقد كتب عن فايسيير جان ماري تيسيير مقالا بعنوان: «ألكسندر فايسيير» في مجلة رويرغ Rouergue العدد 31، 1992م (سلسلة جديدة) =
Jean-Marie Tisseyre, « Alexandre Vayssière », Revue du Rouergue, 1992, 31 (nouvelle série).
إن ما جاء في هذه الشذرة يعد تمهيدا لترجمة التقرير الوافي عن الشخصيتين اللتين كان لهما نفوذ غير منكر في دولة محمد علي، ولم يكن هذا النفوذ خافيا على من تحدثوا عن ذلك. ولكن الذين كتبوا عن المرحلة عدوا هذا الأمر عاملا ثانويا في نجاح الحملة وهو في رأينا العامل الفاعل في التخطيط والتنفيذ. ولنا لقاء.