د. غالب محمد طه
في مقال سابق بعنوان «التحكم عن بُعد.. هل هو استعمار رقمي جديد؟»، ناقشنا كيف أن التكنولوجيا الحديثة، بدلاً من أن تكون مجرد أدوات لخدمة الإنسان، بدأت تؤثر في سلوكياتنا وأفكارنا بشكل غير مباشر. تريستان هاريس، المهندس السابق في جوجل، حذر من أن هذه العملية لا تقتصر على التفاعل السطحي فقط، بل تتغلغل في عقولنا بشكل غير مرئي.
اليوم، سنحاول فهم كيف أن تأثير هذه التكنولوجيا يمتد إلى حياتنا اليومية، بداية من اعتمادنا المتزايد على الأجهزة الذكية إلى تأثير الأنظمة الذكية التي تتحكم في قراراتنا. هل ما زلنا نتحكم في خياراتنا، أم أن التكنولوجيا بدأت تفرض علينا أسلوب حياة معين؟ دعونا نغوص في هذه القضية ونتناول التحديات التي نواجهها في وقت أصبح فيه كل شيء مرتبطًا بالتكنولوجيا.
إذا كانت هذه الأنظمة الذكية تدفعنا للاعتماد بشكل متزايد على الأجهزة، فإن تأثيرها لا يتوقف عند حياتنا الشخصية فقط، بل يمتد أيضًا إلى قراراتنا اليومية. الهواتف الذكية، التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، لم تعد مجرد أدوات للتواصل، بل صُممت لجذب انتباهنا باستمرار عبر الإشعارات المتكررة. هذه الإشعارات ليست مجرد رسائل عابرة، بل هي أدوات مدروسة بعناية لإبقائنا متصلين طوال الوقت. أظهرت الدراسات أن هذا التفاعل المستمر يسبب لنا مستويات أعلى من التوتر والقلق، ويجعل من الصعب علينا التركيز والإبداع، لكن ما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن هذا السلوك ليس عشوائيًا، بل هو جزء من استراتيجية تهدف إلى إبقاء التكنولوجيا في قلب حياتنا اليومية، بغض النظر عن تأثيراتها النفسية.
تأثير الأنظمة الذكية لا يتوقف عند الجانب النفسي فقط، بل يمتد أيضًا إلى قراراتنا اليومية. الإعلانات الموجهة، التي تعتمد على مراقبة سلوكنا الرقمي، تدفعنا نحو اختيارات محددة قد لا تعكس دائمًا رغباتنا الحقيقية. مع تكرار هذه التجربة، يصبح من الصعب علينا التمييز بين ما نريده بالفعل وما تم توجيهنا للاعتقاد أننا نريده. هذا التوجيه الخفي يشكل تهديدًا لاستقلاليتنا الشخصية، حيث تتحول اختياراتنا إلى انعكاس لرغبات الشركات الكبرى التي تسعى لتحقيق مصالحها على حساب حريتنا.
تأثير منصات التواصل الاجتماعي هو أحد أبرز الأمثلة على هذا التوجيه الخفي. بفضل الأنظمة المعقدة التي تعتمد عليها هذه المنصات، يتم تقديم محتوى يتماشى مع اهتماماتنا الشخصية، مما يجعلنا نعيش في فقاعات فكرية. هذه العزلة الفكرية تجعلنا أقل قدرة على التعرف على آراء مختلفة وتفكير جديد، ما قد يفاقم التوترات الاجتماعية ويقلل من فرص الحوار المفتوح.
هذا الانغلاق الفكري الناتج عن الخوارزميات يطرح أمامنا تحديًا أكبر، ألا وهو كيفية الحفاظ على استقلاليتنا في عالم أصبح فيه كل شيء رقميًا. التحدي الأكبر الذي نواجهه اليوم هو الحفاظ على قدرتنا على اتخاذ قرارات حرة. هل ما زلنا نتحكم في اختياراتنا، أم أن التكنولوجيا أصبحت تفرض علينا طرقًا معينة للعيش؟ الحلول الفردية مثل تقليل وقت استخدام الأجهزة الذكية، أو تفعيل الإشعارات الصامتة، أو حتى التوعية بخطورة هذه الأنظمة هي خطوات مهمة، لكنها لا تكفي بمفردها أمام قوة الشركات الكبيرة التي تتحكم في هذه الأنظمة.
من المهم أن نعيد التوازن بين اعتمادنا على التكنولوجيا وحريتنا في اتخاذ قراراتنا. يجب أن نعمل على ضمان أن تبقى هذه الأدوات في خدمتنا، لا أن نتحول إلى مجرد أدوات في يد الشركات.
الحكومات والمنظمات يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في هذا، من خلال وضع قوانين تضمن شفافية عمل هذه الأنظمة ومحاسبة الشركات التي تتجاوز حدودها، إلى جانب ذلك، يجب تعزيز التعليم الرقمي لتوعية الأفراد بآليات التحكم في هذه الأدوات ومساعدتهم على مواجهة تأثيراتها السلبية.
في النهاية، التحدي الأكبر في عالمنا اليوم ليس فقط الاستفادة من التكنولوجيا، بل في الحفاظ على حريتنا في اتخاذ قراراتنا. السيطرة الرقمية على حياتنا لا تتمثل في التحكم في أرض أو موارد، بل في التحكم في أفكارنا وسلوكياتنا من خلال الخوارزميات. يجب أن نكون أكثر وعيًا بهذه التحديات، ونعمل معًا لحماية حقنا في التفكير بحرية بعيدًا عن التأثيرات التي تفرضها هذه الأنظمة الذكية.
ما ناقشناه اليوم هو مجرد بداية لفهم أعمق لعلاقتنا بالتكنولوجيا. في المقال القادم، سنواصل هذا النقاش، لكن من خلال النظر إلى حياتنا اليومية بشكل أعمق. سنعرض بعض الأمثلة الواقعية التي تبرز كيفية تأثير هذه الأنظمة على اختياراتنا، ونبحث في الخطوات التي يمكننا اتخاذها لاستعادة السيطرة على قراراتنا وسط هذا التأثير المتزايد.
وبالله التوفيق..