تغريد إبراهيم الطاسان
في ظل التحديات الاجتماعية والنفسية المتزايدة في مجتمعاتنا، باتت الحاجة إلى حلول مبتكرة وفعالة تتجاوز مفهوم العلاج النفسي التقليدي أمراً ضرورياً. وبينما نرى انتشاراً واسعاً للعيادات النفسية المتخصصة في علاج الاضطرابات النفسية، يظهر نقص واضح في منظومة التأهيل المجتمعي الذي يساعد الأفراد على العودة إلى الحياة الاجتماعية بشكل فعّال.
هنا تبرز فكرة «العيادات المجتمعية» كحل تكاملي يهدف إلى تأهيل الأفراد، خاصة الفئات الأكثر تهميشاً أو معاناة كالمتعافين من الإدمان أو ممن أمضى محكوميته في السجون وبحاجة إلى إعادة تواصلهم الإيجابي مع المجتمع، وغيرهم ممن يحتاجون لدمجهم في المجتمع وإعادة بناء شخصياتهم وثقتهم بأنفسهم.
العيادات المجتمعية ليست بديلاً للعيادات النفسية، بل هي امتداد لها وتهدف إلى تقديم برامج تأهيلية شاملة تعمل مع الأنساق الاجتماعية كلها لتعزز المهارات الاجتماعية، وتعيد بناء الثقة، وتنمي القدرات الشخصية والمهنية.
الفكرة هنا لا تتوقف عند علاج المشكلة من جذورها فقط، بل تمتد إلى معالجة آثارها وتمكين الفرد من مواجهة التحديات الحياتية بثقة واستقلالية.
الفئات التي تعرضت لتجارب صعبة مثل الإدمان أو الذين واجهوا صدمات اجتماعية غالباً ما يعانون من انعدام الثقة بالنفس والخوف من نظرة المجتمع، فتعمل العيادات المجتمعية على تعزيز الثقة لديهم من خلال جلسات دعم جماعي وأنشطة تعليمية وتدريبية.
بالإضافة إلى ذلك، يحتاج العديد من الأفراد إلى برامج تدريبية تعيد تأهيلهم مهنياً وتمنحهم مهارات تساعدهم على الاندماج في سوق العمل. هذا النوع من الدعم يساهم في تقليل معدلات البطالة ويمنح الأفراد شعوراً بالإنجاز والاستقلالية.
كما أن الفئات التي خرجت من تجارب صعبة كالإدمان أو السجن تعاني من وصمة العار الاجتماعية التي تعيق اندماجها في المجتمع، فتساعدهم العيادات المجتمعية في كسر هذه الوصمة من خلال تعزيز الوعي بأهمية احتواء هذه الفئات ومنحها فرصاً جديدة للحياة.
تُعد فئة المتعاطين السابقين من أبرز الفئات التي تحتاج إلى خدمات العيادات المجتمعية، فالإدمان ليس فقط مرضاً نفسياً أو بيولوجياً، بل هو أيضاً مشكلة اجتماعية تؤثر على علاقات الفرد ومكانته في المجتمع.
وحتى بعد التعافي من الإدمان، يواجه هؤلاء الأفراد صعوبة في العودة إلى حياتهم الطبيعية؛ بسبب فقدان الدعم الاجتماعي أو المهارات اللازمة للتكيف مع الضغوط اليومية.
لذلك، تشمل الخدمات التي يمكن أن تقدمها العيادات المجتمعية لهذه الفئة إلى جانب المقابلات الفردية هناك جلسات الدعم الجماعي لتبادل الخبرات بين الأفراد الذين مروا بتجارب مشابهة، وبرامج تطوير الذات تشمل تدريباً على إدارة الوقت وحل المشكلات وتحسين مهارات التواصل، وإرشاداً مهنياً لتوفير التدريب والتأهيل اللازمين للاندماج في سوق العمل، وأنشطة مجتمعية لتعزيز الشعور بالانتماء.
على الصعيد العالمي، نجد أمثلة ناجحة للعيادات المجتمعية مثل «مراكز إعادة الإدماج الاجتماعي» في كندا أو «مراكز التأهيل المجتمعي» في السويد، التي تقدم خدمات شاملة للفئات الهشة اجتماعياً، وهذه المراكز تعمل بتكامل بين الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين وخبراء التأهيل المهني، مع التركيز على توفير بيئة آمنة ومحفزة للنمو الشخصي.
على المستوى المحلي، يمكن الاستفادة من هذه التجارب من خلال إنشاء مراكز مجتمعية متخصصة تكون جزءاً من المنظومة الصحية والاجتماعية، ويمكن أن تعمل هذه المراكز بالتنسيق مع العيادات النفسية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص لتحقيق التكامل في تقديم الخدمات.
نجاح العيادات المجتمعية يعتمد بشكل كبير على دعم المجتمع. يجب تعزيز ثقافة التسامح والاحتواء، وتوعية الأفراد بأهمية مساعدة الفئات المهمشة. الإعلام أيضاً له دور كبير في تسليط الضوء على قصص النجاح، مما يلهم الآخرين ويدفعهم للمشاركة بفعالية في هذه المبادرات.
العيادات المجتمعية ليست مجرد فكرة للرفاهية، بل هي ضرورة لمواجهة التحديات الاجتماعية التي يفرضها العصر التي لا يمكن لأي مجال آخر أن يحل محلها أو يقوم بدورها.. فهي من توفر بيئة تأهيلية متكاملة، تساعد على منح الأفراد وأسرهم فرصاً جديدة للحياة، وتساعدهم على استعادة دورهم الفاعل في المجتمع.
ومع تزايد التحديات التي تواجه الفئات المهمشة، بات من الضروري أن نتبنى هذا النموذج ونسعى إلى تطبيقه بشكل عملي لتحقيق مجتمع أكثر تماسكاً وإنسانية.