د.عبدالله بن موسى الطاير
ذكرني خطاب نائب الرئيس الأمريكي في مؤتمر ميونخ للسلام بخطبة الحجاج بين يوسف الثقفي في أهل الكوفة؛ لقد تحسس القادة الأوروبيون الحضور أعناقهم، بعد أن تجاوزهم الضيف مخاطبا الشارع، ومقدما دعما غير مسبوق لأحزاب اليمين المتطرف، ذلك يشبه مشروع الربيع العربي الذي تصدرت له الليبرالية الديموقراطية الغربية تحت مسمى التغيير، وقررت القفز على الأنظمة الرسمية إلى الشارع العربي مباشرة، لتثويره على الأنظمة، فهل نحن أمام ربيع أوروبي قادم؟
من المبكر التكهن بسقوط الليبرالية الديموقراطية، ولا حتى تشبيهها بالرجل المريض، ناهيك عن حالة الاحتضار، بيد أن صعود اليمين المتطرف في أمريكا يضخ الكثير من الأمل في شرايين القومية المسيحية الغربية البيضاء، وفي وصول الرئيس ترامب، وسيطرة إيلون ماسك على منصة x تمكين مهول لهذا المشروع المدفوع بقوة شعبية هائلة.
يتشارك اليمين المتطرف على ضفتي المحيط الخوف من الأجانب والمهاجرين، ويعارضون العولمة لأنها تقوض الهوية الوطنية، ويستخدمون خطاباً شعبيا بسيطاً ومباشراً يستجيب للمخاوف والقلق العام.
تتسم مواقف هذا التيار بالشك والعداء تجاه الأديان والثقافات الأخرى، ويكرس أتباعه توجهات قومية وهوية ضيقة، ويعتبرون الإسلام تهديدا للقيم الغربية، ويعززون خطابًا معاديًا للمسلمين، وعلى وجه التخصيص فإن أحزاب اليمين المتطرف مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا و»البديل من أجل ألمانيا» تنظر إلى أن الإسلام غير متوافق مع الثقافة الغربية، ويدعون إلى قيود على الهجرة من الدول الإسلامية، وحظر بعض الممارسات الدينية. وتُعدّ معاداة الإسلام أو الإسلاموفوبيا من أبرز سمات اليمين المتطرف الأوروبي الذين يستغلون المخاوف الأمنية والهجرة لترسيخ صورة نمطية سلبية عن المسلمين.
وفي المجمل فإن مواقف أقصى اليمين الغربي تجاه الأديان والثقافات الأخرى تتأرجح بين التعصب والانفتاح، وإن كانت النزعة الغالبة هي التعصب، والحفاظ على «نقاء» العرق أو الثقافة، وهو ما يترتب عليه رفض التنوع وقمع الأقليات. وعلى الرغم من دعم أقصى اليمين لإسرائيل، إلا أن بعض الجماعات اليمينية المتطرفة تتبنى معتقدات معادية للسامية، متعتبرين اليهود جزءًا من «نخبة عالمية» تهدد الهوية القومية.
ربما يكون من غير المرجح استظهار العلاقة المعقدة بين المسيحيين المتطرفين وإسرائيل، فهي تستند إلى تفسيرات لاهوتية وسياسية، ورغم التناقضات، فإن هذا التحالف يبقى قوياً ومؤثراً في السياسة. ومن المفارقات العجيبة أن بعض الجماعات التي تدعم إسرائيل هي نفسها متهمة بمعاداة السامية.
يلتف أقصى اليمين حول المسيحية باعتبارها مكونا أساسيا في الهوية، ويعتنق، وبخاصة في أمريكا، تفسيراً متطرفاً للإنجيل يرى في المسيحية ديانة متفوقة يجب أن تهيمن على المجتمع، معارضين التعددية الدينية المزاحمة لها، وداعمين سياسات تعزز الرموز المسيحية في الحياة العامة كجزء من التراث الغربي، ويرون أن الإسلام والثقافات الأخرى تهدد نقاء هذا التراث. وكما يناصبون الإسلام والتعددية الثقافية العداء، فإنهم يعتبرون العلمانية مهددا للقيم المسيحية التقليدية، وإن كان بدرجة أقل من التهديد الذي يمثله الإسلام.
يبعث اليمين المسيحي المتطرف في الغرب أفكارًا مشابهة لتلك التي طرحها هنتنغتون لتبرير التوجس من التعددية الثقافية، إذ يعتبرونها، خاصة مع وجود أعداد كبيرة من المهاجرين، تهديدا للهوية المسيحية، ويستشهدون بفكرة «صدام الحضارات» لتعزيز خطابهم بأن الإسلام والثقافات الأخرى غير متوافقة مع القيم الغربية، مما يبرر معارضتهم للهجرة. ويعتقدون أن الحفاظ على الهوية المسيحية الغربية يتعارض مع التعددية الثقافية، التي يرونها بوابة لصراعات داخلية وتآكلا للقيم التقليدية، ومصدرًا للصراعات المستقبلية.
نحن نعيش مرحلة مراجعات عميقة في البنى السياسية والأيديولوجية الغربية، إذ يتحدى اليمين المتطرف الليبرالية الديمقراطية من خلال معارضته للتعددية الثقافية والعولمة، واستغلاله لأدوات الديمقراطية لتقويضها. هذا التحدي يُضعف فكرة أن الليبرالية الديمقراطية هي «نهاية التاريخ»، لكنه لا يعني بالضرورة سقوط النظرية تمامًا، بدلًا من ذلك، يُظهر أن الليبرالية الديمقراطية تواجه صعوبات جمة تحتاج إلى معالجة، خاصة في ظل تنامي الشعبوية والقومية.
ودول العالم الثالث تراقب ما يجري من تحولات، فإنها تتساءل ما إذا كان اليمين المتطرف سيسعى إلى فرض رؤيته في الحكم على المختلفين معه، كما فعلت الليبرالية الديموقراطية في حمل الدول على الديموقراطيات والحريات وحقوق الإنسان بالإكراه؟ وللجواب عن هذا السؤال فمن غير المرجح أن يقوم اليمين المتطرف بفرض الديمقراطيات بالطريقة التي كانت تُمارس في إطار المساعي الليبرالية الديمقراطية، فهذا التيار يركز على القومية وحماية الهوية الثقافية، ويعادي العولمة والمؤسسات الدولية. بالإضافة إلى ذلك، يميل اليمين المتطرف إلى تقويض الديمقراطية داخليًا بدلًا من تعزيزها خارجيًا، لذلك، يمكن القول: إن صعود اليمين المتطرف يمثل تحديًا كبيرًا لفكرة نشر الديمقراطية التي كانت مركزية في المشروع الليبرالي.
غير أن مخاوف أخرى قد تبرز مع الوقت، فالمشروع السياسي اليميني المتطرف الذي يستنهض القومية يمكن أن يؤدي إلى صدام مسلح أو عنف مع الأديان والقوميات الأخرى، خاصة إذا استمر في تصعيد خطابه العدائي ووجد دعمًا سياسيًا أو شعبيًا. التاريخ يظهر أن التعصب القومي أو الديني غالبًا ما يؤدي إلى صراعات عنيفة، واليمين المتطرف اليوم يمتلك الأدوات (مثل وسائل التواصل الاجتماعي) لتصعيد هذا العنف بسرعة.