سلطان مصلح مسلط الحارثي
كم بقي من الزمن؟ لا شيء! نعم لا شيء بقي وقد واريت بيديّ أغلى ما أملك في هذه الدنيا، كنت أنثل التراب على جسدها الطاهر ومدامع العين تنسكب من محاجرها كما يهطل المطر من السماء، وفي داخلي صوت يصرخ، توقف توقف، لا تفعل ذلك، ربما كانت نائمة، وربما تصحو وتنادي باسمك، وتطلب منك مايمكن أن يكون سبباً في سعادتها.
كنت أحلم بسماع صوتها ولو للحظة، ولو لمرة، مرة أخيرة فقط، ولكن صوتي المبحوح لم يجد من يرد عليه، نزلت لجبينها الطاهر وقبلتها، وهمست في أذنها، لماذا ترحلين وتتركيني في هذه الدنيا؟ لمن تتركين جسدا أصبح متهالكا، ولم يعد يقوى حتى على الحركة؟ انتظرت ردها وأنا أقف أمامها كالطفل الرضيع الذي ينتظر غذاء أمه، ولكن صوتي عاد لي دون أن أجد أي إجابة، وهل للجسد بعد انتزاع الروح صوت يرد لمن ينادي!
يوم الجمعة 7 فبراير 2025، يوم لن أنساه ما حييت، فقد كان هذا اليوم يوم فراق من لا نستطيع أن نتحمل فراقها، ومن غيابها الأبدي سيشكل علامة فارقة في حياتي، يوم ليس كبقية الأيام، ففي هذا اليوم صعدت روح طاهرة للسماء، وبقي جسدها الطاهر بين يديّ، أناظره واتأمله، وفي تلك اللحظة عادت بي الذاكرة لأكثر من 4 عقود مضت، كان نصيبي منها الحب والحنان والدفء والعطف، واليوم ذهبت لبارئها، ومعها ذهب كل شيء، ذهب الحب الصادق، والحنان النابع من شعور حقيقي، وذهب الدفء الذي كان يشعرني بالأمان في حياة قاسية، لا تعترف إلا بالأقوياء، وتتصادم مع الطيبين وتخذلهم، ذهب كل شيء، ولم يبقَ لي منها إلا الذكرى التي ستعطر ما تبقى من حياتي، وسترافقني في سهر الليالي الطويلة، مع يقيني أن ليالي الشتاء الباردة ستكون موحشة بدون حنان أمي وعطفها، وأيام الصيف اللاهبة ستكون خالية من راحة يد أمي التي ما أن تلامس خدي إلا وأشعر بالراحة والسكينة والطمأنينة.
رحلت والدتي إلى بارئها، وفي صدرها ثلثي القرآن، رغم أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب، وأسأل الله أن يكون شفيعاً لها، هي رحلت لخالقها الذي هو أرحم بها مني ومن جميع خلقه، ولكن هذا الرحيل ترك لي معاناة ستستمر معي طويلاً طويلاً، ولن يستطيع الزمن أن يمحو شيئا منها، وكيف للمُعاني أن ينسى المعاناة إذا كانت مستمرة؟
قبل 36 سنة، أتذكر أن أمي فقدت أهم رجلين في حياة كل امرأة، الزوج والأب، فقد رحلا في خمسة أيام فقط، رحل والدي وبعده لحق به والدها إثر حادث مروري، وكان هذا وحده كافٍيا لتنهار، ولكنها صبرت وتحملت، لا لشيء، ولكن لكي لا يشعر أبناؤها بالفقد الموجع الذي وقع عليها كالصاعقة، تحملت أعباء الدنيا وهمومها، وعملت المستحيل ليستمر عطاء الأبناء، ولا يشعروا باليتم، لا زلت اتذكر «ماكينة الخياطة» التي كانت تعمل عليها لتصرف علينا، وفي الوقت الذي كنا ننام فيه، كانت لا تتوقف عن العمل، وقد كنت أصحو في أواخر الليل، فأجدها تعمل، إما على حياكة الثياب، أو في المطبخ لتجهيز الإفطار، فهل مهما عملنا نستطيع أن نوفي جزءا يسيرا من معروف كبير وكثير وغير محدود؟ هذا مستحيل، فلن يوفي أي ابن معروف أمه مهما بلغ من البر.
أماه، أعلم أنكِ رحلتِ لرب رحيم غفور، ولكن هذا الرحيل ترك لي جرحا غائرا لن يندمل، لستِ سببا فيه، فأنتِ يا أماه لم تكونِي طيلة حياتك، إلا إنسانة تشكلت على هيئة سعادة، ولكن هذا الجرح الأليم، جاء كون أرواحنا تفارقت، وأجسادنا تباعدت، ولم أعد أشعر بالأمان الذي كنت أشعر به بوجودك، حتى في مرضك كنت لا أخاف أي شيء، وأدرك أن دعواتك تلاحقني في كل مكان، وتحفني من مخاطر الزمان، واستظل بها من مصائب الدنيا، واليوم لم يعد لدعواتك التي تصل لعنان السماء، وتجعلني في أمان دائم، أي وجود، فقد انقطعتِ عني وانقطعت عنك دون إرادة منا، ولكنها إرادة الله ومشيئته التي لا راد لها.
اماااه، مضى من الوقت مامضى، مضى في لمح البصر، عشنا فيه بفقرنا وغنانا، والسعادة لا تفارقنا، وأمضينا أعمارنا ضاحكين رغم ما نعانيه من آلام وهموم ومشاكل الدنيا، فكيف انقضى ومضى ذلك الوقت بكل هذه السرعة؟ وكيف ينجبر كسري بفراقك يا أماه؟
رحم الله روحاً طاهرة، روحاً صادقة، روحاً عانت من المرض سنوات طويلة، فصبرت وتحملت، كما صبرت وتحملت من فراق أحبتها في بداية حياتها.
اسألك يارب، أن ترحم أمي وتغفر لها وتجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأن تجمعني بها ووالدي في جنة الخلد.
أماااه، أعلم أن صوتي لن يصلك، وهمسي لن يجد من يشعر به، وكتاباتي لن تجد من يقرأها بشعور الفاقد المنكسر، ولكن أرجو من الله أن يستجيب دعواتي لك، كما كان يستجيب لدعواتك لي.