عبدالوهاب الفايز
دعنا نقدم النيات الطيبة - كما تعودنا - مع المشاريع والأفكار الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية.. فهذه عادة تتخبط ثم تتخبط .. قبل الوصول إلى الصواب!
وماذا ترى؟
الذي نراه، هو دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لكي يدخل التاريخ ويكون مثل الرئيس هاري ترومان ووزير خارجيته جورج مارشال، فهذا أفضل له وللمنطقة من مشروع التهجير والتطهير العرقي المرفوض لسكان غزة!
وهل يعود التاريخ؟
نعم، العبر والدروس تتجدد ظروفها وفرصها، فبعد الحرب العالمية الثانية تبنت أمريكا خطة لإعادة إعمار ما دمرت الحرب في أوروبا. والخطة الاقتصادية (خطة مارشال) أُطلقت بمبادرة من وزير الخارجية جورج مارشال من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على الإعمار وبناء اقتصادها من جديد عبر تقديم هبات عينية ونقدية، بالإضافة إلى القروض الطويلة الأمد.
وفي كلمته في جامعة هارفارد عام 1947، وصف جورج مارشال وضع العالم الخطير، وأشار إلى التكلفة الباهظة التي تكبدها الاقتصاد الأوروبي بسبب الحرب والآثار الاجتماعية المترتبة عليها. الذي يعود إلى كلمة الوزير يعتقد أنه يتحدث عن الحاضر ويصف أوضاع: العراق، سوريا ولبنان وفلسطين، والتي فعلا دمرتها حروب عبثية. بعكس الأوضاع في أوروبا، مع الآسف أمريكا تسببت كثيراً في أوضاع المنطقة الصعبة، فالآن في غزة وسوريا، ولبنان كأننا نرى مشاهد المدن الأوروبية المدمرة!
أمريكا دافعت عن أوروبا وساهمت في بنائها.. وفي الشرق الأوسط كانت - ومازالت - تدخلاتها هي المساهم الأكبر في الخراب!
أمريكا بنت أوروبا رغم ما قيل وقتها حول نواياها، فقيل انها كانت متخوفة من وقوع المجتمعات الأوروبية تحت إغراء الأحزاب الشيوعية بعد انتشار الجوع، والفقر والبطالة واليأس. وقيل أيضا أن الساسة الأمريكان استقرت قناعتهم بأن أوروبا لا تستطيع التعافي دون مساعدة من الولايات المتحدة، وأن المصالح الإستراتيجية الأميركية ستكون في خطر إن سقطت أوروبا في فلك الاتحاد السوفياتي. مهما كانت النوايا، مشروع مارشال أسهم فعليا في توثيق العلاقة بين البلدان الأوروبية مع بعضها، وبينها وبين الولايات المتحدة. وأثمر المشروع عن تكتل اقتصادي أوروبي.
إذاً الادارة الأمريكية جادة في معالجة أوضاع الشرق الأوسط، فأمامها فرصة كبيرة لتحويل مشروع الإعمار إلى خطة تضم فلسطين، وسوريا ولبنان وحتى العراق، أي منطلق للبناء الشامل للمنطقة، كما حدث مع أوروبا. ولكن المهم أولاً أن يتحقق السلام، فخطة مارشال بدات بعد القضاء على هتلر والفاشية وجميع قادة الحرب والخراب. حينئذ أصبح منطقيا وواقعيا إمكانية البناء والتعمير بعد أن استقرت الشعوب وقيادتها على مبادئ السلام والأمن والتعايش.
وللبناء مكاسب أخرى متعدية، فالتعافي الاقتصادي يجلب الاستقرار السياسي، وهذا ما أكد عليه وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال حين ساق المبررات المنطقية لإنقاذ أوروبا؛ ففي رأيه كان ضروريا حرص أمريكا على إعادة العافية إلى الاقتصاد الأوروبي لأن الاستقرار السياسي والسلام مرهونان بذلك. في غزة لا يمكن بناء (ريفيرا) جديدة على ساحل المتوسط في ظل وجود حكومة عنصرية متطرفة في فلسطين المحتلة تقوم عقيدتها السياسية على إخراج الفلسطينيين من أرضهم بالقوة العسكرية المتوحشة!؟ في ظل هؤلاء، لا يمكن إقامة البناء والإعمار والسلام في فلسطين.. أو حتى في المنطقة.
مشروع البناء الشامل هو المدخل للقضاء على هؤلاء المتطرفين. من الممكنات الأساسية لمثل هذا المشروع إنشاء دولة واحدة تجمع الفلسطينيين مع اليهود الرافضين للاستيطان الإسرائيلي. هؤلاء يشكلون الأغلبية، وهم الذين يقودون النضال ضد المتطرفين اليهود في فلسطين، ويعملون - بالذات كبار المفكرين والمؤرخين - على كشف خطورة المشروع الصهيوني على اليهود. فهؤلاء يرون أن فلسطين وعاصمتها القدس كانت ايام الحكم العربي والإسلامي ارضاً تجمع اتباع الأديان السماوية الإبراهيمية، والمسلمين ظلوا ملتزمين بـ(الوثيقة العمرية). طبعا قيام مثل هذه الدولة مرهون بالموافقة الأمريكية والغربية، فالثابت أن إسرائيل زُرعت في المنطقة لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية، وليس حبا في اليهود.
وإذا استحال مشروع الدولة الواحدة، فهناك حل الدولتين المطروح عربيا والمدعوم دوليا. هذا الحل يحقق غايات المشروع الصهيوني، ويحفظ للعرب والفلسطينيين بعضا من الكرامة وبعضا من أرضهم، ويحقق إعمار غزة بالتصور والأفكار التي تتطلع لها الادارة الأمريكية الجديدة، بالذات صقورها الصهاينة المتطرفين.
وهناك تصور قد يحقق الرغبة الأمريكية وهو ايجاد منطقة منزوعة السلاح أو خاضعة لمراقبة دولية لمنع تجدد الحرب، حتى تتيح التعاون للحفاظ على الاستقرار والسلام الجاد والقوي بين شعوب المنطقة وخارجها.
التنمية الاقتصادية وإعادة تاهيل البنية الأساسية التي دمرتها الحرب تحتاج الاستثمارات الضخمة لإعادة بناء الكهرباء والمياه، والطرق والمستشفيات والمدارس. وربما تحتاج بناء قاعدة صناعية للاستدامة الاقتصادية، وربما تتطلب تشجيع الاستثمار وريادة الأعمال في القطاع الخاص، وكذلك برامج لتوليد فرص العمل لتشغيل العمال المحليين ومنع الاعتماد على المساعدات الأجنبية.
وهذه أيضا تحتاج التعاون الدولي والإقليمي والشراكات مع الدول العربية والدعم من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. تجميع كل هذه الجهود وتوفير الأموال الضخمة سوف يحقق إعادة إعمار غزة وبقية الدول المدمرة. ولكن يبقى السؤال الكبير معلقا: من يوافق على مثل هذه الأفكار إذا بقيت الأوضاع في المنطقة وفي فلسطين تحديدا دون تغيير كبير وجوهري، كما حدث مع خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا؟
حين تقتنع أمريكا وتنحاز إلى العدل ورغبة إقامة السلام وتحقيق الامن، فسوف يتيسر التمويل للخطة. واول مصادر التمويل يجب أن تأتي من الحكومة الأميركية والدول الغربية الرئيسية ومن جميع اعضاء مجلس الأمن، وأيضاً من كبار الداعمين والمانحين اليهود الملتزمين بدعم إسرائيل. فهذه المساهمة المالية المباشرة هي الضامن الأساسي لضرورة وجود الحلول الأمنية المستدامة الداعمة للاستقرار.
الدول العربية بادرت مرات عديدة لإعادة إعمار غزة، ولكن بمجرد اطلاق رصاصة او صاروخ من غزة، تشن إسرائيل حربها وتدمر كل الذي تم بناؤه!
وهذا ينطبق على الاتحاد الأوروبي الذي مول البنية الأساسية الفلسطينية تاريخياً، وغالبا لن يساهم الاتحاد بشكل كبير في مشروع الريفيرا، أو في المشروع الشامل، وكذلك المساعدات المباشرة من الحكومة الأميركية ستكون صعبة دون الضمانات الأمنية، فالشعب الأمريكي سوف يحاسب الرئيس ترامب على أية مساعدات ضائعة، كما هو يحقق الان في المساعدات المتعددة التي أقرها الديموقراطيون لأوكرانيا.
بالنسبة للقطاع الخاص، محاذير الاستثمار ستكون أصعب. الشركات متعددة الجنسيات والمستثمرون الإقليميون لن يُمولوا البنية الأساسية والمشاريع العقارية والسياحية. كذلك رجال الأعمال الفلسطينيين أو العرب لن يدعموا جهود إعادة البناء المقترحة في ظل وجود ذهنية وعقلية الحرب الإسرائيلية.
والآن، ثمة مكاسب أخرى متعددة لمشروع الإعمار الشامل الحالي تتجاوز مخاوف مشروع مارشال من وقوع أوروبا في فلك الشيوعية. حاليا، المؤكد أن عدم استقرار الشرق الأوسط يشكل خطرا وجوديا على شعوب المنطقة، بل على مصالح الشعوب كافة، وليس فقط مصالح أمريكا وأمن إسرائيل. لذا نقول إن الرئيس ترامب لديه (فرصة تاريخية) لطرح مشروع السلام العادل للفلسطينيين نظرا لفوائده المتعدية للحاضر: هو يخدم الاستقرار العالمي، ويخدم خطة إعمار غزة، بالصورة والآلية التي تجمع الجهود للمشاركة في مشروع الإعمار الشامل للمنطقة.
هذا أفضل من المشاريع التي تفرض بالقوة أو بالابتزاز!