د. محمد بن أحمد غروي
بحسب الدراسات، يواجه العديد من جيل الشباب عالميًا اليوم إشكاليات في الصحة العقلية تؤثِّر على إنتاجيتهم، فربع سكان العالم يصابون بأمراض نفسية في مرحلة ما في حياتهم، وزاد عدد المصابين بالاكتئاب والقلق النفسي بأكثر من 50 % في الأعوام الماضية، وسيكون الاكتئاب ثاني أهم أسباب عبء الأمراض في البلدان متوسطة الدخل، وثالثها في البلدان منخفضة الدخل بحلول عام 2030 وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
من هذا المنطلق، انضمت إندونيسيا إلى مبادرة عالمية جديدة تختبر نظام العمل المرن وتقصير أيام العمل الأسبوعية مكونة من أربعة أيام بدأت بها شركات حكومية مطلع هذا العام وستمد إلى الوزارات بعد استيفاء شرط العمل لمدة 40 ساعة أسبوعيًا. العمل المرن يمنح الموظفين القدرة على اختيار وقت ومكان العمل، فهناك عدة نماذج لأنظمة العمل المرن، كالعمل عن بعد والعمل الهجين، فيمكن للموظفين التفاوض على مكان عملهم لبعض من الوقت، فيُسمح للموظفين بموجب القانون بطلب تغييرات على ساعات العمل القياسية، وأسابيع العمل المضغوطة، ويتم اعتماد أسابيع العمل المكونة من 4 أيام لإعادة التوازن بين العمل ووقت التوقف عن العمل.
فنلندا إحدى الدول التي زرتها واطلعت على تجربتها الرائدة عالميًا في ساعات العمل المرنة، فمنذ التسعينيات عملت على قانون عمل يسمح للموظفين بتعديل ساعات العمل، فقانون ساعات العمل يمنح معظم الموظفين الحق في تعديل ساعات العمل اليومية النموذجية لمكان عملهم ومرونة تغيير وقت بداية العمل أو انتهائه بثلاث ساعات. وبحلول عام 2011، قدمت فنلندا نموذجًا دوليًا كأكثر جداول العمل مرونة على هذا الكوكب، وفقًا لدراسة أجرتها شركة المحاسبة العالمية جرانت ثورنتون، حيث سمحت 92 % من الشركات للعاملين بتعديل ساعات عملهم، مقارنة بـ 76 % في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، و50 % في روسيا و18 % فقط في اليابان.
وتزايد الحديث عن أسابيع العمل المرنة ونظام العمل المرن خاصة بعد جائحة كورونا، حيث أعاد العمال وأصحاب العمل التفكير في أهمية مرونة مكان العمل والمزايا.
ومضت بلجيكا على منوال المرونة في العمل، فشرعت أسبوع العمل لأربعة أيام، حيث حصل الموظفون البلجيكيون على الحق في أداء أسبوع عمل كامل في أربعة أيام دون تقليص الراتب. ودخل القانون الجديد حيز التنفيذ في أواخر العام الماضي، لكن هذا لا يعني أنهم سيعملون أقل كما بدأت ألمانيا كذلك مع عشرات شركاتها بالتعاون مع جهات استشارية في ألمانيا في اختبار أسبوع العمل المكون من 4 أيام في تجربة ستستمر ستة أشهر في المجموع.
وفقًا لمسح أجرته Forsa، يرغب 71 % من الأشخاص العاملين في ألمانيا في الحصول على خيار العمل بساعات أكثر وأيام أقل في الأسبوع، حيث قال ما يزيد قليلاً عن ثلاثة أرباع من شملهم الاستطلاع إنهم يدعمون استكشاف الحكومة لإدخال أسبوع عمل مكون من أربعة أيام. ومن بين أصحاب العمل، أيد أكثر من اثنين من كل ثلاثة هذا. ويعتقد 75 % أن أسبوع العمل المكون من أربعة أيام سيكون مرغوبًا فيه للموظفين، و59 % منهم بأنه يجب أن يكون قابلاً للتحقيق لأصحاب العمل أيضًا.
تخطط الشركات في المملكة المتحدة التي أجرت ذات التجربة الألمانية بجعل أسبوع العمل الأقصر دائمًا، بعد أن أشادت بالتجربة ووصفتها بأنها «ناجحة للغاية». وشاركت العشرات من الشركات في البرنامج التجريبي وهو الأكبر من نوعه وتمت دراسة تأثير ساعات العمل الأقصر على إنتاجية الشركات ورفاهية عمالها، فضلاً عن التأثير على البيئة والمساواة بين الجنسين.
مؤخرًا، أعلنت الحكومة اليابانية عن خطة لاعتماد أسبوع عمل من أربعة أيام لموظفي الحكومة، في أحدث مساعيها لمساعدة الأمهات العاملات وتعزيز معدلات الخصوبة المنخفضة القياسية معلنة بشكل منفصل عن سياسة أخرى تسمح للآباء والأمهات الذين لديهم أطفال في الصفوف من الأول إلى الثالث في المدارس الابتدائية بالتنازل عن جزء من رواتبهم مقابل خيار الخروج المبكر.
تشير بعض الدراسات للعديد من الإيجابيات المرتبطة بأنظمة العمل المرنة، من بينها زيادة الإنتاجية، حيث تشير الأبحاث إلى وجود رابط قوي بين ترتيبات العمل المرنة وزيادة إنتاجية الموظفين وتقليل التوتر والإرهاق، إذ يشير تقرير حديث صادر عن هيئة الصحة والسلامة (HSE) إلى أن التوتر أو القلق أو الاكتئاب المرتبط بالعمل مسؤولاً عن 50 % من جميع حالات المرض المرتبطة بالعمل وأسفر عن متوسط 17.3 يومًا من الإجازة المرضية لكل موظف. الذي ترجم الواقع إلى تكاليف كبيرة لكل من أصحاب العمل والموظفين.
وحول تحقيق رضا وظيفي أفضل، وجدت دراسة أجراها معهد أبحاث ADP أن 82 % من موظفي المملكة المتحدة الذين لديهم ترتيبات عمل مرنة أفادوا بأنهم يشعرون بالرضا عن وظائفهم، كما أن نظام العمل المرن يجذب أفضل المواهب، ويعد حافزًا للعديد من الدول والمؤسسات لاستقطاب العمالة الماهرة وأفضل المواهب والاحتفاظ بها أولوية قصوى للشركات.
نتمنى أن تخوض وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية هذه التجربة الدولية الناجحة وتحفيز أرباب العمل مع حوكمة الفكرة ودراسة أثرها على موظفيها وإنتاجيتهم لما يعود بالنفع على بلادنا.