د.حادي العنزي
في ظلال الأمن تزدهر الحضارات، وتتقدم الشعوب، فلا ازدهارَ دون طمأنينة، ولا إبداعَ دون استقرار. وفي عالمٍ يعجُّ بالتحديات والمخاطر يبقى الأمن الإنساني هو الدرع الذي يحمي المجتمعات من الانهيار، والسِّوار الذي يزين حضارات الأمم ويضمن كرامة الأفراد؛ إنه ليس مجرد إجراءات وقائية أو منظومات أمنية، بل هو فلسفة عميقة تُعنى بحماية الإنسان، وصون حقوقه، وضمان استقراره، وازدهاره.
وضمن مساعي تطوير وتعزيز كفاءة منظومة العمل الأمني عامة، ومكافحة الجريمة خاصة، أعلنت وزارة الداخلية يوم الخميس الماضي عن استحداث الإدارة العامة للأمن المجتمعي ومكافحة جرائم الإتجار بالأشخاص. هذه الإدارة الجديدة ستُعنى بمكافحة الجرائم التي تنتهك الحريات الأساسية، وتستهدف كرامة الإنسان بأي شكل من الأشكال، لإرساء بيئة آمنة تُعزز سلامة المجتمع واستقراره، وذلك انطلاقاً من أن الأمن بمفهومه الشامل لا يتوقف عند حماية الممتلكات أو حراسة الشوارع، بل يمتد ليشمل حفظ كرامة الإنسان، وحماية حقوقه الأساسية، والتصدي لكل ما يهدد حرياته. فمن خلال الإدارة العامة للأمن المجتمعي، يتم تفكيك الشبكات الإجرامية، ومكافحة الإتجار بالبشر، والتنسيق مع الجهات المحلية والدولية للقضاء على الجرائم العابرة للحدود.
هذا النهج يعكس إيماناً عميقاً بأن الكرامة الإنسانية هي جوهر الأمن، وأن المجتمع المستقر هو الذي يحمي ضعفاءه، ويقف سداً منيعاً في وجه كل من يحاول استغلالهم أو انتهاك حقوقهم.
والمملكة تُعد نموذجاً رائداً في هذا المجال، حيث وضعت الأمن الإنساني في صميم رؤيتها التنموية، إدراكاً منها بأن الاستقرار الاجتماعي والأمني هو الأساس لتحقيق التنمية المستدامة. وتظهر هذه الجهود في العديد من المبادرات والإنجازات التي تؤكد دورها المحوري في هذا المجال.
فقد أدت دوراً بارزاً في مواجهة التنظيمات الإرهابية، مثل «القاعدة» و»داعش»، من خلال استراتيجية شاملة تركز على الجوانب الأمنية والفكرية والاجتماعية. كما أنشأت مراكز متخصصة مثل مركز اعتدال (المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف)، الذي يهدف إلى مواجهة الفكر المنحرف ونشر قيم التسامح والاعتدال. يعتمد المركز على أحدث التقنيات لتحليل البيانات المتعلقة بالتطرف، ويعمل على تفكيك الخطابات المتطرفة. كما تم تعزيز الأمن الداخلي من خلال تطوير قدرات الأجهزة الأمنية وتدريبها على التعامل مع التهديدات المختلفة.
والمملكة منذ تأسيسها تُشارك في التحالف الدولي ضد الإرهاب، وتدعم الجهود الإقليمية والدولية لتعزيز الأمن والاستقرار. كما تعمل على تبادل المعلومات مع الدول الأخرى بشأن التهديدات الأمنية العابرة للحدود، مما يعكس التزامها بالعمل الجماعي لمواجهة التحديات الأمنية. وإعلان الإدارة العامة للأمن المجتمعي ومكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص هو عمل سبقته جهود مميزة على المستوى المحلي والدولي سواءً من خلال إطلاق الحملات التوعوية والبرامج التدريبية لتعزيز وعي المجتمع بمخاطر الإتجار بالبشر أو من خلال التشريعات الصارمة والاتفاقيات الدولية لتعزيز التعاون في هذا المجال.
ولا يمكن لأي دولة أن تحقق نمواً اجتماعياً أو اقتصادياً دون الاستقرار الأمني، فالأمن والتنمية المستدامة وجهان لعملة واحدة، وقد أدركت المملكة هذا الارتباط مُبكراً، فجعلت الأمن جزءاً لا يتجزأ من رؤيتها التنموية، وأطلقت خلال رؤية 2030 العديد من المبادرات التي تهدف إلى تعزيز الأمن الإنساني؛ مما جعل المملكة تتصدر دول مجموعة العشرين حسب بيانات الدول في قاعدة بيانات الأمم المتحدة لمؤشرات أهداف التنمية المستدامة مقارنة بنتائج مؤشر الأمان لعام 2023م، الذي أصدرته الهيئة العامة للإحصاء شهر فبراير الجاري؛ حيث أظهرت النتائج أن نسبة الذين يشعرون بالأمان من إجمالي السكان أثناء السير بمفردهم ليلاً في مناطق سكنهم بلغت (92.6 %).
وهو شهادة على نجاح الجهود الحكومية في تعزيز الأمن والاستقرار؛ لضمان حياة كريمة ومستقرة للأفراد بالدرجة الأولى، وهي بذلك تتجاوز حدود الحماية الأمنية التقليدية لتشمل جهودها مختلف جوانب الحياة التي تؤثر على رفاه الإنسان. ومع ذلك، فإن تحقيق الأمن الإنساني ليس مهمة الدول أو الحكومات فقط، وإنما مسؤولية تشاركية تتطلب تكاتف كل مكونات المجتمع، بما فيها الأسرة والمدرسة فهما أساسيتان في بناء أي مجتمع آمن ومستقر.
فالأسرة هي النواة الأولى للأمن الإنساني ومن خلالها تُغرس القيم الأخلاقية، مثل: احترام القانون والتسامح في نفوس الأبناء. لذا يجب أن تكون الأسرة نموذجاً يُحتذى به في تعزيز الأمن والسلام.
كما أن التعليم هو الركيزة الأساسية لبناء وعي مجتمعي يمكنه مواجهة التحديات، ويُلاحظ في السنوات الأخيرة الجهود المبذولة في تطوير المناهج الدراسية، والعمل على تعزيز قيم التسامح والمواطنة، مما يُسهم في بناء جيل واعٍ وقادر على مواجهة التحديات.
والمجتمع بصفةٍ عامة مُطالب بتأدية دوراً محورياً في تعزيز الأمن من خلال رفض خطاب الكراهية، والتعاون مع الجهات الأمنية، والمساهمة في نشر ثقافة السلام. وهذا لا يتحقق إلا بالتفاعل المستمر بين المجتمع والجهات الأمنية لضمان تحقيق الأمن الشامل.
الأمن الإنساني هو روحٌ تسري في شرايين الوطن، ونبضٌ يُحيي آمال الأجيال؛ إنه العقد الاجتماعي الذي يجمع بين الحاكم والمحكوم، والمؤسسات والأفراد، لصناعة وطنٍ مستقر ومزدهر.
واجبنا جميعاً أن نحافظ على هذه الروح الآمنة، وأن نجعلها شعلةً لا تنطفئ، ودرعاً لا يُكسر، وسِواراً يزين كرامة الإنسان.
إذا أدركنا جميعاً أن الأمن مسؤولية جماعية، سنبني وطناً يحمي أبناءه، ويضمن لهم حياةً كريمة، ومستقبلًا يعبق بالأمل، فهو الحصن الذي يذود عن الكرامة، والسلاح الذي يُدافع عن الحريات، والجسر الذي يعبر عليه الوطن نحو آفاق التنمية المستدامة ومستقبل الأجيال.