د. طارق بن محمد بن حزام
عبر التاريخ، ظل الإسلام دينًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، حيث امتد نوره ليصل إلى قلوب الناس في مختلف أنحاء العالم. ومع هذا الانتشار الواسع، ظهرت بعض الشبهات حول الوسائل التي ساهمت في وصول الإسلام إلى هذه الرقعة الجغرافية الكبيرة.
ومن بين هذه الشبهات، الادعاء بأن الإسلام انتشر بالسيف، وللرد على هذه الشبهة، لا بد من العودة إلى النصوص الشرعية والسياقات التاريخية لفهم حقيقة الرسالة الإسلامية القائمة على الرحمة، والإقناع، واحترام حرية العقيدة.
كثيرة هي الشبهات التي ألحقت بدين الإسلام على مر العصور. بعضها يخفت أو يغيب مؤقتًا، لكنها تعود للظهور بسرعة لدعم شعارات جديدة وأكثر حدة، ومن هذه الشبهات، شبهة «انتشار الإسلام بالسيف»، وهي شبهة قديمة جديدة. قال بها المستشرقون وتلامذتهم من المسلمين، والآن يرددها الكثير من ملحدي البلدان الإسلامية، بناءً على قراءات مغلوطة للتاريخ الإسلامي، وهنا نجد دفعين رئيسيين يردان هذه الشبهة من جذورها.
أولًا، لم يثبت أن المسلمين أرغموا غيرهم على اعتناق الإسلام عن طريق السيف، بل تركوا اعتناقه للقناعة الشخصية، تطبيقًا للقاعدة الربانية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29). وما الرسول إلا مبلغ مبين، لا سلطة له لإكراه الناس على التحول من الكفر إلى الإيمان، بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99). أليس هذا أكبر دليل على زيف مقولة «الدين انتشر بالسيف»؟ فالقرآن أكد حرية المعتقد في غير آية، وعلى رأسها: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256). وهذه الآية محكمة غير منسوخة، لأن القول بنسخها يتعارض مع قواعد النسخ وضوابطه، ويتعارض كذلك مع نصوص واضحة من القرآن.
ثانيًا، إغماض العين عن أدلة القرآن يعتبر ورقة رابحة في يد الملحدين والمنصرين وكل من يكره هذا الدين، حيث يستخدمونها لدعم شعاراتهم الدنيئة التي ترفع شعار «الإسلام انتشر بالسيف». مع العلم أنه لم يرد اسم واحد للسيف في القرآن للدلالة على الغاية من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. كل ما ورد في القرآن يفيد التبشير، والإنذار، والتعليم، والهداية، والرحمة. يقول تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (البقرة: 119)، ويقول أيضًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } (يونس: 57).
وتعتبر حادثة فتح مكة دليلًا آخر على تهافت هذه الشبهة؛ إذ لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم خلال هذه الحادثة من آذوه وآذوا أصحابه طوال عمر الدعوة، سواء في مكة أو المدينة بعد الهجرة. بل كان أكثر حلمًا مع أشدهم عداوة له، فقال: {مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ}. فلو كان الهدف إكراه الناس على الإسلام، لبدأ بهؤلاء، ولكنه تركهم يختارون بحرية.
وما يؤكد هذه الحقيقة أكثر، قصة صفوان بن أمية، أحد رؤوس الشرك في مكة، الذي لم يسلم أثناء الفتح. استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم دروعًا لحرب «حنين»، فقال له صفوان: «أغصبًا يا محمد؟» فأجاب الرسول: {بَلْ عَارِيَةٌ مَرْدُودَةٌ}. أي ليس قهرًا ولا إكراهًا. بل إن صفوان شارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الدفاع عن أرضه بمحض إرادته، وليس دفاعًا عن الإسلام مجبرًا. وبعد انتهاء المعركة، تألفه الرسول بالغنائم الوفيرة، فأسلم صفوان بعد ذلك. فهل يصح بعد هذا المثال القول بأن الإسلام انتشر بالسيف؟
لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- والصحابة من بعده أرغموا النصارى واليهود على اعتناق الإسلام، لما بقي منهم أحد، ولما وجدت كنائس وبيع لهم في كثير من البلدان الإسلامية، التي تعتبر حماية أماكن العبادة جزءًا من مسؤوليتها، وذلك على مر العصور وإلى اليوم.
ختامًا، ما أحوج أمة الإسلام إلى البحث والدرس والتنقيب؛ لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي أصبحت سلاحًا يُرفع في وجهها لتشويه الحقيقة، والإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وطمس مشروعية الجهاد الحقيقية، الذي هو رد العدوان بكافة الطرق والوسائل. إن كتب السيرة مليئة بالأمثلة التي تؤكد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- ما قاتل إلا دفاعًا عن دينه والمظلومين من أمته، ولم يهاجم أو يغزو لإكراه الناس على الدخول في الإسلام، ولا لأخذ الغنائم والسبايا؛ فالإسلام دين الرحمة والحرية، وقد انتشر بفضل أخلاقه العالية ورسالته الإنسانية، وليس بالسيف أو الإكراه.