د. محمد بن إبراهيم الملحم
بنهاية هذا الأسبوع تنتهي اختبارات هذا الفصل الدراسي وهي فرصة أن نتأمل في هذه المفردة والتي كان لفظها تاريخيا «الامتحان» قبل أن تصبح «الاختبار» ولفظة «امتحن» وردت في سورة الحجرات من القرآن الكريم في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى (3) سورة الحجرات، وقد فسرت بمعنى أن الله اختبرهم وابتلاهم ليعرف من منهم هو الأفضل، فقد تمت تصفيتهم كما تتم تصفية الذهب الخالص بتعريض الذهب الخام للنار فيصفو منه أفضل الذهب. كما وردت اللفظة أيضاً في سورة الممتحنة من كتاب الله في قوله تعالى: إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ (10) سورة الممتحنة، أي اختبروهن لتعرفوا من منهن صادقة فعلاً في إيمانها وكان هذا الامتحان أو الاختبار بسؤالهن ما السبب الرئيس في هجرتهن فإن كان بسبب عدم تواؤم مع الزوج أو خلافات بينهما فهي لم تنجح في الاختبار.
إذن هذا هو الامتحان الذي يبين حقيقة الشخص ومدى ما يملكه من الصفة التي يدعيها (الإيمان - التقوى - الهجرة) وكذلك الطالب يدعي أنه فهم واستوعب الدروس فيمتحن بسؤاله أسئلة تبين إلى أي مدى هو صادق في ادعائه أنه فهم واستوعب الدروس.
فيما سبق من الزمان وحينما كانت المفردة «امتحانات» فقد كان الاختبار حقيقيا يقوم على أساس استخراج أفضل ما لدى الطالب من خلال الأسئلة السابرة الكثيرة التي لم تستخدم من قبل في الموقف التدريسي، كما أن بعض تلك الامتحانات كانت في الصيغة الشفهية فالسؤال يطرح على المتعلم ليجيب لفظياً وهو تحد كبير للطالب يجعله فعلا في امتحان حقيقي، وقد كتب كثيراً في الامتحانات الشفهية وإلى أي مدى هي منصفة ذلك أنها تتحول من موقف تعليمي معرفي بحت إلى موقف نفسي، وبالتالي فإن نتيجة الطالب في مثل هذا النوع من الاختبارات هي ليست حصيلة ما يمتلكه من المعرفة والذي هو الأساس الفلسفي لفكرة الاختبار الأكاديمي وإنما هي حصيلة قوته النفسية وقدرته على تحمل الموقف والإجابة بشكل مباشر وربما أيضا سرعة البديهة، وبالتالي فإن مثل هذا الاختبار يدخل فيه تشويش لا يتناسب مع المنطق التي قامت عليه فكرته وغاياته.
أما الاختبارات التحريرية في ذلك الوقت فقد كانت أيضا امتحانات بمعنى الكلمة، ذلك أنها كانت تحمل في طياتها أسئلة لم يألفها الطالب من قبل، وإن كانت تنتمي إلى المنهج بالطبع، وأنا لا أنتقد وإنما أشيد بقيمتها في تعزيز قوة الطالب العلمية مقارنة باختباراتنا اليوم والتي أغلبها هو تكرار لما طرحه المعلم من أسئلة أثناء التدريس سواء طرحا شفهيا في الموقف التعليمي في الفصل أو من خلال أوراق العمل والتي هي الممارسة السائدة لدى أغلب المعلمين مما يجعلك تجد 90% من الطلاب يستذكرون من أوراق العمل التي هي في واقع الأمر تحمل أسئلة الاختبار في ثناياها مما أفرغ الاختبار من قيمته الأساسية.
ويقال «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان» ولا شك أنها عبارة تحمل في طياتها مبدأ التحدي وتضع الطالب على مقصلة الذبح الاجتماعي والذي ينظر إليه من منظور قدراته العلمية فقط. وفي واقع الأمر فعند الامتحان لا يجب أن يكون هناك لا إكرام ولا إهانة في ذات الوقت ، فالاختبار موقف متعادل تماماً ينبغي أن يمر به الطالب في كل أمان ليقدم أفضل ما عنده بكل طمأنينة. ومع كل ذلك تظل روح شبح «الامتحانات» التي كانت مسيطرة في الزمن الماضي ماثلة في زمننا هذا في عدد من الحالات ، ومرد ذلك هو أن جيل الامتحانات أورث الجيل الذي يليه هذه المشاعر والذي هو غالبا اليوم جيل الآباء والأمهات الشباب والذين أيضاً وبدون وعي منهم ومن باب مزيد الحرص نقلوا نفس المشاعر لأبنائهم أطفال وطلاب اليوم لنجد أن بعضهم يشعر برهبة الاختبار بطريقة غير بناءة وقد تؤثر على جودة أدائه، ومع الأسف فإن غياب الوعي لدى هذا النوع من الوالدين (أو أحدهما) يجعله يتمسك بأسلوب من سبقه في نقل فكرة رهبة الاختبار إلى أبنائه من باب الحرص عليهم وتطلعه إلى تفوقهم بزيادة اهتمامهم بهذا الأمر القادم لتمر أيام الاختبارات على الأبناء أيام تعب وقلق.. بينما في واقع الأمر تقوم فلسفة الاختبارات على أنها استجلاء لما حصله الطالب من المعرفة أثناء الفصل الدراسي، ذلك أنها تنطلق من منطلق أن الطالب متصل بالمادة العلمية طوال السنة من خلال أنشطة المعلم التدريسية وأسئلته والواجبات والأنشطة الصفية، وبالتالي فإن ما يحدث أثناء فترة الاختبارات هو مجرد مراجعة، ومع التسليم أن هناك عددا من الطلاب ينتابهم الكسل فيؤجلون كثيراً من الاستذكار ويشجعهم على ذلك سلوك معلميهم الترسلي وقلة المحاسبية، إلا أن هؤلاء يمكنهم مع بذل قليل من الجهد قبل الاختبارات بأسبوع أو أسبوعين أن يستذكروا المادة وكثيراً من مفاهيمها ومهاراتها، وهذا الاختلاف عن الجيل الماضي يعود إلى أن المادة العلمية في وقتنا الحاضر وفي ظل الفصول الدراسية الثلاثة باتت أقل مما هي عليه سابقا في نموذج فصلين دراسيين أو حتى في سنوات الامتحانات الغابرة عندما كان الطالب يختبر آخر العام في الكتاب كله، وهذا أيضا يعطينا لمحة عن سبب آخر لرهبة ما يسمى «الامتحانات» في النموذج القديم، ولكن لا يجوز أن تنسحب هذه الرهبة على النموذج الحديث والذي تغيرت معالمه كثيرا وتحسنت كثير من عوامله.
عموماً لقد كانت هذه دردشة سريعة لإنعاش الفكر حول الاختبارات والامتحانات كمترادفين يقدم التأمل فيهما كثيراً من الإلهام التربوي، وكل اختبارات وأنتم بخير.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً