د. عيد بن مسعود الجهني
الولايات المتحدة الأمريكية عمرها اليوم (250) عاماً، فبعد كفاح طويل ضد المستعمر البريطاني جاء إعلان استقلالها بموجب وثيقة تبناها الكونجرس القاري بتاريخ 4 يوليو 1776 لتصبح المستعمرات الأمريكية وعددها (13) ولاية مستقلة عن بريطانيا العظمى آنذاك لتصبح نواة الولايات المتحدة الأمريكية.
إذاً باختصار شديد أمريكا ذاقت مرارة الاستعمار لردح طويل من الزمن، وقاومت الاستعمار بقيادة جورج واشنطن الذي أصبح أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية (1789 - 1797) ولذا سميت العاصمة واشنطن باسمه.
التاريخ عِبر ودروس يسجل نضال الأمريكيين من أجل تراب الوطن، ورفضوا منح بريطانيا ذرة واحدة منه، وهذا مبدأ تطبقه كل دول وشعوب الكرة الأرضية.
لكن وماذا تعني (لكن) ما أن شرف السيد ترامب البيت البيضاوي حتى امتلأ عقله وفكره بالسلطة والعظمة والقوة، وبدأ يصدر الفرمانات المتعددة، متدخلاً بشؤون الدول الداخلية بدون حياء سياسي وحكمة وباعتباره الرئيس المسئول عن دولة عظمى يجب أن تكون مثالاً يحتذى بالعدل، بدلاً من سلوك طريق الشطحات السياسية والمغامرات الهوجاء ليصدر قرارات خطيرة لم يسبقه إليها رئيس أمريكي.
أنذر بنما بالتنازل عن قناتها ليضمها إلى بلده، وطلب من كندا أن تصبح ولاية أمريكية رقم (51)، والدنمارك ببيع جزيرة جرينلاند لأمريكا.
لم يتوقف الرجل عن هذا فعرَّج على الدول العربية وقضية فلسطين، فغزة عنده أن أهلها لا يحق لهم العودة لها وزاد على ذلك أن بلاده ستحتلها، وتهجر أهلها وتحولها إلى ريفيرا بالشرق الأوسط، ولدى ترامب مشروع آخر بشأن سكان غزة، فمرة سيهجرهم إلى مصر والأردن، ومرة إلى المملكة.
ويزيد الرجل من التخبط في قراراته ليهدد كلاً من مصر والأردن بقطع المساعدات الأمريكية عنهما إذا رفضت استقبال أهل غزة، خطة ترامب تصدت لها ست دول (المملكة - مصر - فلسطين - الإمارات - الأردن - قطر) خلال الاجتماع الوزاري الذي عقد بالقاهرة بتاريخ 1 فبراير 2025، قبل مؤتمر القمة الذي سيعقد في 27 من هذا الشهر.
النتيجة الحتمية لاجتماع هذه الدول وما ستعلنه القمة، رفض قاطع لخطط ترامب التهجير أو نقل الفلسطينيين من أرضهم بأي شكل من الأشكال أو تحت أي ظرف من الظروف.
إن أي باحث أو خبير بالسياسة والعلاقات الدولية والجغرافيا وهو يحلل شطحات ترامب يدرك أن الرجل ينقصه الإلمام حتى بتاريخ بلاده، فالشعب الأمريكي رفض الاستعمار واعتبره عنصرياً ودكتاتورياً وظالماً.
وهذا ما يجب أن يعرفه ترامب، ويجب أن يتعلم من عِبر ودروس تدخل الإدارات الأمريكية بفيتنام في ستينيات القرن المنصرم وخسائر بلاده الكبيرة البشرية والمادية، وفي هذا القرن ماذا جنت ماما أمريكا من تدخلها السافر في ديار العرب والمسلمين في كل من أفغانستان والعراق الذي كبدها قتلى وجرحى كثراً، وفي البعد المادي وحده أكثر من (4) تريليونات من الدولارات وخرجت منهما مكسورة الجناح.
وإذا كان ترامب يخطط لتهجير الفلسطينيين واحتلال أرضهم بالقوة (المعراة) فهذا لن يحدث، فالأرض هي أرض العرب عاشوا فيها منذ أكثر من (5000) عام واليهود احتلوا أجزاء منها بدعم بريطاني - أمريكي ظالم، وإذا كان ترامب قارئاً للتاريخ السياسي (وليس تجارة العقارات) فعليه فهم أن خططه كلها ظلم ما بعده ظلم، وأن الظالم نهايته الهلاك بعناية الخالق.
كان على السيد ترامب أن يتحدث عن تحقيق السلام لا عن الاحتلال والاستعمار والتمييز العنصري الذي انتهى إلى غير رجعة في جنوب أفريقيا، لكنه للأسف استقر على أرض فلسطين ترعاه إسرائيل بتأييد أمريكي صارخ.
ثم كان على رجل البيت الأبيض أن يدعم المبادرة العربية للسلام التي أجمع عليها العرب في قمة بيروت عام 2002 ورفضتها إسرائيل وأمريكا وحدهما، ووافق عليها أعضاء الأمم المتحدة، هذا لأن المبادرة التي منشؤها سعودي أعطت لإسرائيل ما تريده من تطبيع الدول العربية معها، إذا قامت الدولة الفلسطينية على حدودها في عام 1967، لكن إسرائيل ومعها (أمها) أمريكا أبتا إلا أن تسلكا جادة الاحتلال والاستعمار والتفرقة العنصرية واستعمال القوة في ردع الشعب الفلسطيني بسلاح أمريكي.
دليل حي أمامنا هذا السلاح على مدى (15) شهراً حوَّل غزة إلى حطام لتصبح أثراً بعد عين، والناظر إليها يذكره ذلك بالقنابل النووية التي ضربت بها أمريكا الجزر اليابانية لتنهي بها الحرب الكونية الثانية عام 1945.
وإذا أطلق ترامب مرة أخرى وعده بإنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية في أول يوم يدخل معه البيت الأبيض ليثبت أنه رجل سلام، فكل ما فعله مكالمات تليفونية مع صديقه القوي السيد بوتن، زادت الحرب اقتتالاً ولم تطفئها، فقيصر روسيا يملك النفط والغاز والقوة، والسيد ترامب كان عنوان حملته الانتخابية (عودة أمريكا عظيمة)، فكيف سيخلق القوة والعظمة كما سعى وهو لم يحقق حتى كتابة هذه السطور لبلاده سوى (السخرية)، فكندا مثلاً أنها ستصبح الولاية رقم (51) لا يمكن أن يقال عنها سوى إنها (سخرية).
وعن تنافسه مع الصين مثلاً ينطبق عليها نفس التسمية، الصين في الاقتصاد والصناعة والتجارة وإجمالي الناتج القومي تنافس أمريكا نفسها بل تتفوق عليها في بعض تلك العناصر. وإذا أخذنا تصريحاته على محمل الجد ويجب أن يفعل ذلك فيما يتعلق بتهجير أهل غزة إلى مصر والأردن المجاورتين بل تعدى ذلك إلى المملكة والإمارات، وكما نوهنا فهذا (افتراء) وظلم ما بعده ظلم ضد الفلسطينيين وخرق صريح للقانون الدولي والإنساني واتفاقيات جنيف الأربع وميثاق الأمم المتحدة وسيادة الدول العربية.
الدول العربية والإسلامية وفي مقدمتها المملكة رفضت وترفض ذلك بشكل قاطع مطبقة ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية ذات الصلة، المملكة باعتبارها قبلة (2) مليار مسلم والدول العربية والإسلامية تعتبرها المثل الأعلى في دعم القضية الفلسطينية قبل التقسيم عام 1947 وتأسيس الكيان الصهيوني عام 1948 وحتى اليوم سياستها الداخلية والخارجية واضحة كالشمس في رابعة النهار تجاه إسرائيل، لا علاقة دبلوماسية إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، والعرب والمسلمون مع المملكة في هذه السياسة الواضحة.
الدول العربية تدرك أن تهجير الفلسطينيين إلى الدول المجاورة خطر ما بعده خطر على أرض فلسطين أولاً وبعده على الأمن القومي العربي من الخليج إلى المحيط؛ فالأمر يستدعي الوحدة وبناء القوة، فعالم اليوم أسوأ من عالم القرون الوسطى رغم اشتهار القرون الوسطى بوحشيتها وبطش الأقوياء فيها، ذلك أن تلك العصور رغم وحشيتها كان هناك ما يسمى (أخلاق الفارس) ما يزال موجوداً فيها، وقد يجد الضعيف فيها شيئاً من العناية، وقد يجد المحتاج فيها شيئاً من الرعاية، أما عالم اليوم فإنه مجرد من كل القيم الإنسانية فلا حماية لضعيف ولا رعاية لمحتاج.
عالم اليوم عالم مادي شرس، لا يعرف رحمةً ولا عدلاً، بل يعرف القوة، وبقدرتها على التأثير غير المحدود على الغير وإرغامه على الإذعان لأنه الأضعف، فأصبح الضعيف في هذا الزمن ممتهناً ذليلاً مسلوب الإرادة ضائع الحق، يؤمر فيطيع وينفذ ما يريده الأقوياء حتى لو كان في ذلك ضرره بل هلاكه، فبأي شيء يدافع عن نفسه وبأي شيء يرد كيد من أراد به كيداً؟
القوة ضدها الضعف، والضعف منكور ممتهن، فالضعيف ذليل محتقر، حقه مسلوب وكرامته مهانة وشرفه مبذول، لا تُسمع له كلمة ولا تُصان له كرامة، تجده دائماً حسيراً كسيراً كاسف البال.
الأمن القومي أصبح اليوم ضرورة لوجود الأمم ومطلباً أساسياً للشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، فهو الذي يؤمن الدول وسيادتها على المستوى الداخلي والخارجي والعرب يدركون ذلك، وهذا هو الرد القوي على شطحات وتخبطات ترامب وقراراته سيئة الصيت وقد نتوقع منه الأسوأ.
والله ولي التوفيق،،،