محمد عبدالحميد السطم
لم يكن الإرث الثقيل الذي ورثته الإدارة السورية الجديدة عن النظام السابق مقتصرًا على الأزمات الداخلية فحسب، من انهيار اقتصادي وفساد مستشرٍ ودمار واسع في البنية التحتية، بل امتد أيضًا إلى العلاقات الخارجية، حيث ترك النظام خلفه سجلًا متوترًا مع الدول العربية، ما خلق تحديات كبيرة تتطلب إعادة بناء الثقة من جديد. ورغم أن سوريا كانت دائمًا إحدى الركائز الأساسية في النظام العربي، إلا أن سياسات نظام الأسد أدّت إلى عزلها عن حاضنتها الطبيعية وإضعاف دورها الإقليمي. فمنذ اندلاع الاحتجاجات عام 2011، اختار الأسد القمع على الإصلاح، ورفض جميع المبادرات العربية التي طُرحت لحل الأزمة، ما أدى إلى تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية وقطع العلاقات الدبلوماسية معها.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل سمح النظام بتغلغل النفوذ الأجنبي عبر ميليشيات عسكرية واقتصادية، مما عمّق الفجوة بين سوريا ومحيطها العربي.
ورغم هذه القطيعة، لم تتخلَّ الدول العربية عن محاولات إعادة سوريا إلى الصف العربي، فبادرت بعد سنوات إلى إعادة فتح قنوات الاتصال مع دمشق، واستعادت سوريا مقعدها في الجامعة العربية بهدف تعزيز حضورها الإقليمي. لكن النظام لم يُظهر أي تجاوب فعلي مع هذه المساعي، بل استمر في سياساته حتى لحظة سقوطه المدوي في 8 ديسمبر 2024، فاتحًا بذلك فصلًا جديدًا في تاريخ سوريا، وفرصة سانحة لاستعادة مكانتها العربية من جديد.
مع سقوط نظام الأسد، فتحت سورية صفحة جديدة على مختلف الأصعدة، وكان أبرز ملامح هذا التغيير العودة السريعة إلى المحيط العربي في تحول يعد أبرز الإنجازات المبكرة للإدارة السورية الجديدة، فبعد العزلة الطويلة عادت دمشق إلى دائرة الاهتمام العربي، وسرعان ما بدأت خطوات عملية لترميم العلاقات، وإعادة بناء الثقة.
وفي تأكيد واضح على الأولوية التي توليها القيادة السورية الجديدة، كانت الرياض وجهة الرئيس السوري أحمد الشرع الأولى كمحطة خارجية له بعد توليه السلطة، وعكست هذه الخطوة إدراك دمشق للدور السعودي في دعم الاستقرار الإقليمي، والمساهمة في إعادة سورية إلى الحاضنة الإقليمية، وتعزيز حضورها على الساحة الدولية، وبدا ذلك جليا من خلال تصريح الرئيس السوري أحمد الشرع، والذي أعرب فيه عن تقديره للمملكة مشيرا إلى أنه لمس رغبة حقيقية لدى القيادة السعودية في دعم سورية خلال المرحلة المقبلة، كما أكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان دعم المملكة الكامل للجهود الرامية في تحقيق الاستقرار في سورية. ولم تكن هذه الزيارة التحرك الوحيد في هذا الإطار، فقد سبقتها زيارات مهمة قام بها وزير الخارجية السوري إلى الرياض، والدوحة، وأبو ظبي مما شكل ذلك مؤشرا واضحا على رغبة دمشق في إعادة بناء العلاقات على أسس جديدة بعيدا عن السياسات التي دفعت سورية إلى العزلة في الماضي.
ومع بدء هذه المرحلة الجديدة، ظهرت عدة ملفات محورية تشكل أساس التعاون المستقبلي بين سورية والدول العربية كان أولها إعادة الإعمار، والبنية التحتية فقد أبدت الدول العربية تجاوبا في سعيها للمساهمة في إعادة بناء سورية، وجاء ذلك على لسان أمين عام مجلس التعاون الخليجي خلال اجتماع الرياض الوزاري الإقليمي الدولي فقد وعد بالتنسيق مع الدول الأعضاء لعقد مؤتمر دولي للمانحين بالتعاون مع الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في أقرب وقت ممكن، ويشمل ملف الإعمار بناء المدن المدمرة، وإصلاح البنى التحتية. كما يتمثل الدعم الاقتصادي والمالي في كونه من أولويات التعاون العربي الذي سيركز على الاستثمارات في مختلف القطاعات ودعم استقرار العملة السورية التي بدأت تشهد تحسنا ملحوظا.
وعلى الجانب الآخر تتعاون الدول العربية مع الحكومة السورية الجديدة لضبط الحدود، وتجلى ذلك في تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق العمليات الأمنية مما يمهد الطريق لعودة اللاجئين التي تعتبر الثمرة المرجوة الأولى في هذا الإطار، والتي تسعى الدول العربية في المساهمة بتحقيقه من خلال المساعدات الإنسانية وتأهيل المرافق المتضررة.
ولا يُمكن قراءة عودة سوريا إلى الساحة العربية على أنها مجرد خطوة دبلوماسية بل إنها إعادة تموضع استراتيجي سيكون له آثار في الملفات الكبرى على المشهد الإقليمي، فقد كانت سوريا خلال السنوات الماضية منصة لتصدير المخاطر والتهديد على دول المنطقة ككل وساهم ذلك تغلغل النفوذ الأجنبي فيها على حساب الشراكة مع الحاضنة العربية.
أما الآن فإذا نجحت الإدارة السورية الجديدة في إعادة صياغة شراكتها مع العرب سيؤدي ذلك بالضرورة إلى إعادة ضبط للتوازن في المنطقة، والذي سينتج عنه إثراء الدور العربي المشترك لتكون سوريا فيه عنصرا نشطا يُمكن إشراكه والاعتماد عليه. فبعد عودتها إلى الحضن العربي زادت رقعة التعاون العربي في مختلف القطاعات بدءا من التعاون السياسي والدبلوماسي المتمثل في مساهمتها المستقبلية في جامعة الدول العربية، والمشاركة في المبادرات العربية الجماعية إضافة إلى توسيع نطاق التعاون الأمني والاستخباراتي فقد كانت سورية مصدرا رئيسيا لبث المخاطر الأمنية كهجرة الجماعات المتطرفة، والمخاطر الاقتصادية كتهريب المخدرات أما الآن فمن خلال التنسيق الأمني وتبادل المعلومات حول قضايا التهريب المنظّم والجرائم العابرة للحدود يجب أن يتغير المشهد نحو السلام والاستقرار.
ولا يقف هذا التغيير عند حدّه السياسي والأمني بل يمتد إلى إحداث تحولات في الجانب الاقتصادي، فعبر الدخول من بوابة إعادة الإعمار ستبرز فرص استثمارية هائلة تعزز من التعاون الاقتصادي العربي، إضافة إلى التعاون في سبيل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها لإعادة تفعيل التبادل التجاري مستفيدين من موقعها الذي يشكل نقطة ربط بين الخليج والعراق والأردن من جهة، وأوروبا من جهة أخرى.
ولا شك أن عودة سورية إلى الحاضنة العربية بعد سنوات العزلة تعتبر نقطة تحول حاسمة في مسارها السياسي والاقتصادي، وما هي إلا بداية لفرص جديدة ستتبلور ملامحها قريبا. فلم تقتصر العودة على الجانب الدبلوماسي بل تتعداه إلى ضبط العلاقات السياسية، والاقتصادية ويتلمس المراقب للمشهد نية واضحة لدى جميع الأطراف في تذليل الصعوبات، والتحديات، وتحقيق مشاريع مشتركة في إعادة الإعمار، والاقتصاد، والأمن ولكن نجاح هذه المرحلة يعتمد بشكل كبير على التزام سوريا الشفافية في التعامل مع التحديات الداخلية، والخارجية كما أن السياسة الخارجية لسورية الجديدة ستتبلور أكثر عند الاشتباك مع الملفات الإقليمية المعقدة مثل الملف الفلسطيني، والأمن الإقليمي والذي سيشكل امتحانا حقيقيا لمستقبل العلاقات مع الأشقاء العرب، كما أن نجاح سوريا في هذا الامتحان مرتبط بقدرتها على استلهام الخبرات العربية في التعامل مع هذه الملفات بحيث تكون مواقفها متماهية مع الموقف العربي العام الذي عادة ما يتجسد بمواقف المملكة.
في ظل هذا التحول الجديد تبرز الفرص الكبرى التي تساهم في إعادة إحياء التعاون العربي، والعمل المشترك في مختلف المجالات مع التأكيد على استثمار هذه اللحظة التاريخية لترسيخ أسس تنمية مستدامة في المنطقة. ويبقى الأمل ختاما في أن يكون هذا الفصل الجديد في تاريخ سوريا بداية لإرساء السلام الداخلي، والإقليمي وبناء سوريا الجديدة التي تساهم في تعزيز الأمن، والازدهار للمجتمع العربي ككل.