د.عبدالله سعد أبا حسين
الدراسات المتعلقة بتاريخ نجد كثيرة، إلا أن ما كُتب عن الدرعية في العشرين سنة الأولى من حكم محمد بن سعود لا يشبع نهماً، وعذر الدارسين فيما أحسب: ندرة الكلام عليها في المصادر؛ كتاريخ ابن عباد، وابن غنام، والفاخري، وابن بشر، وأشباهها، وهو ما جعلني أسعى لسد الثغرة معتمداً على مصادر مختلفة ومتنوعة، ومجتهداً في ربط المعلومة بأختها، معتبراً في الربط ما رسمته أشباه حوادث الدهر ومثلات الأيام من سنن تجعلنا - مع كثرة قراءة التاريخ - نستنبئ المقدمات بمعرفة النتائج، والعكس، والدهر كما قال الشاعر: آخره شبه بأوله.. ناس كناس وأيام كأيامي.
وبين يدي القارئ الكريم مقال علمي متواضع يشرف منه على ملامح الفترة المذكورة في الدرعية، أبدؤه بملاحظة تغيرات سريعة هجمت عليها مذ أول يوم تولى فيه الإمام محمد بن سعود سنة 1139هـ، فإنها اجتمعت على حاكم واحد، وانضم بعضها إلى بعض، واجتماع البلد بعد فرقة مدعاة لصلاح، ولا أدل عليه من زيادة قوة الحراك العلمي فيها مقارنةً بعهودها السابقة، ويمكننا عقد المقارنة بمطالعة مجموع ضخم، يضم فتاوى وأجوبة علماء نجد في الفترة من أول القرن العاشر الهجري إلى أول القرن الثاني عشر الهجري، ومن نقلوا عنه من علماء الأحساء، والشام، ومصر، ألفه الشيخ أحمد المنقور (ت: 1125هـ)، وسماه: (الفواكه العديدة في المسائل المفيدة).
ووجه المقارنة أن المنقور ذكر سبعة عشر عالماً في أكبر بلدان العارض، أعني: بلدة الرياض وكان اسمها مقرن، وبلدة العيينة، وبلدة الدرعية، ونصيب بلدة الرياض من العلماء المذكورين تسعة، وهم: ناصر بن محمد بن عبد القادر بن مشرف، وزامل بل سلطان آل يزيدي، وإسماعيل بن رميح، وسليمان بن محمد بن شمس، وأحمد بن محمد بن خيخ، وأحمد بن ناصر بن مشرف، وعبد الله بن محمد بن ذهلان، وأخوه عبد الرحمن، وعبد الله بن أحمد بن شويهين.
ونصيب بلدة العيينة سبعة علماء، وهم: أحمد بن يحيى بن عطوة، وعبد الله بن عبد الوهاب بن مشرف، وأحمد بن محمد بن بسام، وسليمان بن علي بن مشرف، وعبد الوهاب بن عبد الله بن مشرف، ومحمد بن موسى بن حبيش، وعثمان بن أحمد بن قائد، بينما نصيب الدرعية عالم واحد فقط، وهو موسى بن عامر بن سلطان الباهلي (ت: 1021هـ) (1)، ووجدنا في مقابله أربعة علماء في العشرين سنة الأولى من رئاسة محمد بن سعود، ذكرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بضع رسائل كتبها قبل سنة 1158هـ، وهم: عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن، وعبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم، وعبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى، ومحمد بن سلطان العوسجي (2).
والمنقور يعنى في مجموعه بذكر بعض صور مسائل الفقه الواقعة في البلدان النجدية، وذكر منها صورة مسألة واقعة في بلدة الدرعية، وهي: صحة الصلاة في بطحائها مع أن العامة تغشاها، ووجدته نقل فيها أجوبة العلماء: ابن عطوة (948هـ)، وعبد الوهاب بن عبد الله آل مشرف (1125هـ)، وعبد الله بن ذهلان (1099هـ) (3)، وهم من خارج بلدة الدرعية، بل وجدت قاضي الرياض الشيخ ابن ذهلان يصرح غير مرة أنه حكم ببعض الأحكام في الدرعية (4)، بينما وجدت شأناً آخر للدرعية في العشرين سنة الأولى من إمارة الإمام محمد بن سعود، فإن لها مكانة علمية جعلت الشيخ محمد بن عبد الوهاب يبعث إليها بعض رسائله التي كتبها قبل سنة 1158هـ ليؤيده عالمها باعتباره أجل علماء نجد (5).
وإذا بحثنا عن مصادر المنقور في مجموعه؛ وجدناه يستمد كثيراً من شيخه الحافظ الكبير الفقيه عبد الله بن ذهلان (ت: 1099هـ)، ولد في بلدة العيينة، ورحل في سبيل العلم إلى بلدة أشيقر، ثم إلى دمشق، وعاد إلى نجد، ولقي العلماء، ونقل عنهم، ورجع إلى بلده العيينة، ثم ولاه رئيس الرياض قضاء بلدة مقرن، وكان رؤساؤها آنذاك: آل مديرس، ابتدأت رئاستهم سنة 1037هـ، وانتهت سنة 1099هـ، وتحرك العلم في الرياض في فترة رئاستهم بصورة ملحوظة، فإننا رصدنا رحلة طلبة العلم إليها، لأخذ العلم على يد الشيخ ابن ذهلان وأخيه عبد الرحمن، وتتبعتهم لمعرفة بلدانهم، فوجدتها: حوطة سدير، وثادق، وغسلة، وغيرها، ولم أجد وافداً من بلدة الدرعية، بينما وجدت في العشرين سنة الأولى من إمارة الإمام محمد بن سعود ثلاثة تلاميذ.
إن ما ذكرته من مقارنات يؤكد ملاحظة زيادة قوة الحراك العلمي في الدرعية في العشرين سنة الأولى من حكم الإمام محمد بن سعود، وإذا قرأنا سير البلدان التي صارت مراكز علمية؛ تكرس في أذهاننا رسم علاقة وطيدة وطردية بين الاستقرار والأمن في البلد، والحراك التجاري فيها، والحراك العلمي، بمعنى أن الحراك التجاري ينشط بصورة أكبر متأثراً بمنع التعديات، ويحصل المنع برئيس قوي الشوكة، نافذ الأمر، مستهدف للأمن والاستقرار، وكذلك الحراك العلمي ينشط ويقوى في ظل الأمن والاستقرار، ويزداد قوةً وحراكاً متأثراً بصورة مباشرة بالحراك التجاري، فإن أوقاف وصدقات أصحاب الأموال تمد العملية التعليمية، وتغذيها، وشواهده - على سبيل المثال - مدارس بناها تجار نمت تجارتهم وازدهرت في ظل أمن مستتب على أيدي رؤساء وملوك؛ كدمشق، وحلب في القرن السادس الهجري، والسابع والثامن (7).
ويحضر في ذهني مثالان لمركزين علميين، أحدهما: البصرة التي اشتهرت بالعلم في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ثم أصيبت بفتنة الزنج سنة 256هـ، وقويت الفتنة فيها، وامتدت، فخرج منها ومن حولها علماء، وبعضهم قتل، وأصيبت خزائن كتب العلم (8)، ثم إن الله تعالى بسط فيها الأمن بفضل ولي عهد الخليفة العباسي، أبي أحمد الموفق، الذي حارب أصحاب الفتنة ثلاث عشرة سنة، وقضى عليهم، ولما استقرت البلد وأمنت؛ طلب الموفق أبو أحمد من الإمام أبي داود السجستاني صاحب السنن، أن ينتقل إليها ويتخذها وطناً، وعلل ذلك بقوله: (لتعمر بك البلد بعد خرابها، ويرحل إليك طلبة العلم)، فاستوطن أبو داود البصرة، وبث العلم، ورحل إليه وإليها في سبيله، وممن رحل: قرطبيان، وهما: وليد بن عمر (ت: 300هـ)، وابن الزيات عبد الله بن محمد شيخ الحافظ ابن عبد البر (390هـ) (9)، ثم رجع القرطبيان إلى قرطبة، وكان قد بدأ فيها ملك عبد الرحمن بن معاوية (صقر قريش) سنة 138هـ، وتبعه ابنه هشام، فالحكم بن هشام، فعبد الرحمن بن الحكم (ت: 238هـ)، وبسطوا الأمن، وتحركت التجارة بعد، ونمت وازدهرت، قال الذهبي عنها بعد تلك الحقب: (جلب العلم إليها) (10)، يعني بالبداهة: بعد الأمن، وبعد الحراك التجاري، ثم تغير حالها في نهاية المائة الرابعة، وحصلت فيها الفتنة بين بني مروان، فخرج منها علماء؛ كابن عبد البر الذي أخذ سنن أبي داود عن شيخه المرتحل إلى البصرة بعد أمنها، وكابن بطال شارح الصحيح، قال القاضي عياض عنهما: (خرجا من قرطبة بعد الفتنة) (11)، وهكذا في نماذج من أمن البلدان بعد خوفها، وعمارها بعد خرابها، واجتماع أهلها بعد تفرقهم، وطمأنينتهم بعد اضطرابهم، وربما تتفاوت أسباب الاضطرابات في البلدان، لكن نتائجها على الحراك العلمي والحراك التجاري متشابهة، فإذا وقعت المقدمات؛ حصلت النتائج.
إن النمط المتكرر في بلدان صارت مراكز علمية في تاريخ المسلمين؛ هو ما نشير إليه - لكن بنسبة أقل بكثير - في الرياض إبان رئاسة آل مديرس، والعيينة في فترات من حكم آل معمر، والدرعية في العشرين سنة الأولى من إمارة الإمام محمد بن سعود، وربما في بلدان نجدية أخرى يستدعيها الذهن، واستدعاؤها - في مقامنا - يثري دراسات تاريخية متعلقة بحالة الأمن والاستقرار والحراك التجاري فيها؛ مثل بلدان إقليم سدير: جلاجل، وحوطة سدير، والمجمعة، في نهاية القرن الحادي عشر الهجري وأول القرن الثاني عشر الهجري، فإننا نلحظ بعد قراءة تراجم علماء نجد في ثلاثة قرون ابتداءً من العاشر؛ وفرة العلماء في سدير في الفترة المحددة، بينما لا نجد ذات النتيجة ولا ما يقاربها قبل ذلك، وكذلك بلدة أشيقر التي نلحظ عند قراءة سيرتها وسير علمائها: وفرتهم فيها في فترات، ووفود عدد من طلبة العلم إليها، بينما نجد بعض علمائها يخرجون منها بعد ذلك بسبب الاضطرابات والفتن، ومن اللطائف أن عدداً من علماء أشيقر وسدير ذكروا معاً في إجازة علمية وقعت في بلدة أشيقر سنة 1099هـ، وهم: المجيز الشيخ أحمد بن محمد القصير (ت: 1124هـ)، والمجاز الشيخ فوزان بن نصر الله بن محمد (1149هـ)، وعلماء حضروا مجالس قراءة التلميذ على شيخه، وهم: أحمد بن شبانة، وحسن بن عبد الله أبا حسين (ت: 1123هـ)، وعبد القادر العديلي (1135هـ)، ثم إن العالمين الأشيقريين: أحمد القصير وحسن أبا حسين، المذكورين في الإجازة؛ تحولا من بلدهما بسبب الاضطرابات سنة 1109هـ، إلى سدير، وتحديداً: بلدة جلاجل (12).
* * *
الهوامش:
(1) وهناك علماء ذكرهم المنقور، ولم أتبين بلدانهم، فلم أدخلهم في العد والمقارنة، وهم: أحمد بن موسى الباهلي الشافعي ج1، ص512، وج2، ص155، و317، وحسن بن عبد الوهاب ج1، ص253، وراشد بن غيثار الشافعي ج2، ص48، ومرشد بن علي بن دبيان ج1، ص8، وج2، ص231، ويظهر أنه شافعي.
(2) نقل الرسائل ابن غنام في (روضة الأفكار) ج1، ص154، 157، 159، 172، 174، وينظر في خصوص ابن سلطان: مخطوط رسالة محفوظ في مكتبـة الرياض السعودية برقم (592-86)، ص49-52.
(3) (الفواكه العديدة) ج1، 60-61، 92.
(4) المرجع السابق ج1، ص299، 446.
(5) نقلها ابن غنام في (روضة الأفكار) ج1، ص145 - 146.
(6) نقل الرسائل ابن غنام في (روضة الأفكار) ج1، ص181، و182، و183. وينظر: عبد الرحمن بن حسن (المقامات)، ص85.
(7) ينظر مثلاً: النعيمي (الدارس في تاريخ المدارس) ج1، ص11، 95، 199، وج2، ص89.
(8) ينظر في مصيبة العلم والعلماء فيها: ابن خلكان (وفيات الأعيان)، ج4، ص325، والذهبي (النبلاء)، ج12، ص262، و374، والقفطي (إنباء الرواة)، ج3، ص10، وج4، 190، والسيوطي (طبقات الحفاظ) ص285.
(9) الذهبي (سير أعلام النبلاء) ج13، ص216، 209. وج15، ص538. وابن الفرضي (تاريخ علماء الأندلس) ج2، ص158.
(10) (الأمصار ذوات الآثار) ص4.
(11) (ترتيب المدارك) ج8، ص127، 160.
(12) تنظر الحادثة في إبراهيم بن عيسى (تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد)، ص100، وتعليق المحققين الوزان والبسيمي عليها.