د. سفران بن سفر المقاطي
يُعَدُّ يوم التأسيس السعودي حدثًا تاريخيًا استثنائيًا يتجاوز مجرد كونه مناسبة لتدوين صفحة من صفحات الماضي، بل هو حدث يُعيد إلى الأذهان هوية الدولة وقيمها الراسخة التي أسست لها حضارتها منذ أكثر من ثلاثة قرون.
ففي عام 1139هـ الموافق 1727م، شهدت أراضي شبه الجزيرة العربية الانطلاقة الأولى للدولة السعودية التي كان لها بالغ الأثر على مسار التاريخ السياسي والاجتماعي في المنطقة. ومن هنا، يأتي يوم التأسيس السعودي كرمز للوحدة الوطنية والإرث الحضاري العظيم الذي يحمله الشعب السعودي في وجدان كل فرد، معززًا بذلك قيم الولاء، الفخر، والاعتزاز بالجذور التاريخية والثقافية.
تعود بدايات الدولة السعودية لذلك العام حينما اتخذ الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- قرارًا تاريخا ومحوريًا بتوحيد القبائل والجزء الأكبر من المجتمعات القبلية في شبه الجزيرة العربية تحت لواء رؤية مشتركة ترتكز على قيم التعاون والعدالة والمحبة، فقد كان الإمام محمد بن سعود يتبنى منهجًا جديدًا مستندًا إلى المبادئ الإسلامية الأصيلة وقيم الولاء والانتماء، مما أسهم في تكوين روح وطنية تتجاوز الحدود التقليدية للنظم القبلية لتؤسس كيانا جديدا يستند إلى العدالة والتلاحم والتجديد على شكل دولة، تتكاتف مكونات المجتمع في تأسيسها والدفاع عنها. لقد تجلى هذا الإرث التاريخي العظيم في اتفاقيات التعاون والتحالفات التي كانت أساس تشكّل الدولة، حيث كانت هذه المبادئ بمثابة البذرة التي زرعها الأجداد في قلوب أبناء هذه الأرض، لتثمر فيما بعد مفاهيم الوحدة والتلاحم التي أصبحت لاحقًا من ركائز الهوية الوطنية العربية السعودية.
يحمل يوم التأسيس السعودي أهمية بالغة؛ فهو يحمل رسالة تربوية وتنموية تعكس الاتجاه الوطني للفخر بالماضي والإيمان بالعطاء المستقبلي. ففي هذا اليوم، تتمايز الفعاليات المتنوعة التي تُقام في مختلف مناطق المملكة لتسليط الضوء على ملامح تاريخ الدولة السعودية الأولى، من خلال المعارض والندوات والمحاضرات التي يقدمها نخبة من المؤرخين والمثقفين والباحثين والذي بدأ سنويا وذلك بعد صدور الأمر الملكي الكريم من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود (حفظه الله) في 27 يناير 2022م، الموافق 24 جمادى الآخرة 1443هـ، بأن يكون يوم 22 فبراير من كل عام يوماً للتأسيس. ولا تكتفي هذه البرامج بإبراز قصة النشأة التاريخية للدولة فقط، بل تبرز أيضًا البطولات والتضحيات التي قدمها رجال ونساء مضوا قدمًا في سبيل رفع راية الوطن، مما يجعل من يوم التأسيس مناسبة لتعزيز الروح الوطنية وتشجيع الشباب على الاستلهام من قصص الكفاح والتفاني في خدمة أرض الوطن.
وتتنوع الاحتفالات التي تُقام بمناسبة يوم التأسيس لتشمل عددًا من الفعاليات التي تجمع بين العروض الفنية التراثية والمعارض التاريخية المؤثرة. ففي القرى والمدن تجري الاحتفالات التقليدية التي يُعاد من خلالها سرد القصص المروية عن فترة التأسيس، مثل جلسات اللقاءات والحوارات التي ينقل فيها الشيوخ والمثقفون حكايات الأجداد وقصص البطولة والشجاعة التي كانت آنذاك.
كما تستضيف المدن الكبرى معارض تصويرية ومنتجات فنية تحكي قصة الدولة السعودية الأولى عبر لقطات تاريخية ونماذج أثرية، تبرز عراقة الماضي وتوثّق اللحظات التي كانت نقطة تحول في تاريخ الوطن، وتشارك هذه الفعاليات في إبراز الدور الحضاري العميق الذي جعلته تلك الحقبة في تشكيل الوعي الاجتماعي والثقافي الذي عرفه المجتمع السعودي، مبرزًا بذلك مدى التزام الدولة والتشعب الثقافي بين مختلف مكوناتها.
وتتنوع أيضا مظاهر الاحتفال بيوم التأسيس في المملكة، فهي لا تقتصر على الفعاليات الثقافية والعروض المسرحية والمؤتمرات العلمية، بل تشمل أيضًا الأنشطة الميدانية التي يُبرز فيها التراث العمراني والمواقع التاريخية التي شهدت ولادة الدولة السعودية الأولى. ففي بعض المناسبات، تُنظم جولات إرشادية لزيارة المناطق الأثرية التي ما زالت تحتفظ بذكريات التأسيس ومظاهر الحياة في تلك الحقبة البعيدة. وتُعدّ مثل هذه الزيارات فرصة رائعة لتعريف الجمهور بمراحل تكوّن الدولة وتجسيد التاريخ في صور حية، مما يدعم الشعور بالانتماء والارتباط العميق بين المواطن ووطنه، ويعزز من قدرته على تقدير الإرث الحضاري بما يتماشى مع رؤية المملكة في الحفاظ على التراث وتوظيفه كوسيلة للتعليم والتواصل الثقافي.
ولم يقتصر الاحتفال بيوم التأسيس السعودي على الجانب الفني والترفيهي فحسب، بل تعددت أيضاً الفعاليات العلمية والثقافية التي تهدف إلى تثقيف الأجيال الصاعدة حول أهمية هذا التاريخ العريق. فقد تم تنظيم ورش عمل ومنتديات نقاشية تُعنى بدراسة معالم النهضة الوطنية والصراعات التي مرت بها الدولة خلال سنوات نشأتها، وكيف ساهمت تلك المراحل في صقل الهوية الوطنية وترسيخ مبادئ العدل والتآزر بين أفراد المجتمع. وكذلك، تم عقد ندوات أكاديمية تناولت الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية التي أثرت في مسيرة الدولة السعودية منذ بداياتها، مؤكدين بذلك على ضرورة دراسة التاريخ كمدرسة للحكمة والتعلم من الدروس التي رسمها الأجداد في مواجهة التحديات والحرص على عدم نسيان الجذور والتقاليد التي شكلت روح المملكة.
لقد أدت وسائل الإعلام والصحافة السعودية دورًا محوريًا في تسليط الضوء على أهمية يوم التأسيس، حيث قدمت تقارير وبرامج وثائقية تُوثّق الرحلة الطويلة للدولة منذ بداياتها وحتى أيامنا المعاصرة. وبهذا يُسهم الإعلام في بناء جسر تواصلي بين الماضي والحاضر، يتيح للمواطنين فهما عمقا العمليات التاريخية التي شكلت الهوية الوطنية، وإدراك المسيرة البطولية التي انطلقت منها رؤى الوحدة والإصلاح. وقد قدمت وسائل الاعلام السعودية منصات حوارية خصصت لهذا اليوم الوطني المهم، تناولت فيها حلقات نقاشية جمعت بين مؤرخين ونقاد ثقافيين برؤية تحليلية عميقة لأهمية التاريخ في مواجهة التحديات الراهنة، مع التأكيد على أهمية استلهام الدروس التاريخية لتطوير السياسات المستقبلية
وفي ظل التحديات المعاصرة التي تواجه العديد المنطقة والعالم، تأتي رسالة يوم التأسيس السعودي لتذّكر الجميع بأن الهوية الوطنية ليست مجرد كلمات، بل هي قصص شجاعة وتضحيات ومواقف نادرة شكلت مسارا تاريخيا، وجعلت من المملكة قوة راسخة على المستويين الإقليمي والدولي. ومن هنا، يُنظر إلى هذا اليوم على أنه بمثابة منبر مرن يدعو كل فرد من أبناء الوطن للوقوف بثقة والاعتزاز بجذوره، والعمل معًا على رسم مستقبل يعتمد على قيم التعاون والتفاني في خدمة الوطن. ومن الجدير بالذكر أن القيادة السعودية المعاصرة تستمد روحها من هذه البدايات العريقة، حيث تُعتبر الروح القيادية والرؤية الثاقبة التي كان يتمتع بها قادة الدولة الأولى حجر الأساس الذي تقوم عليه رؤية المملكة في العصر الحديث. وهذا يجعل من يوم التأسيس مناسبة حافلة بالدروس والعبر، تشجع على الابتكار والتحديث دون التخلي عن الأصالة والتراث التاريخي الذي يشكل الهوية الوطنية السعودية.
إن الاحتفال بيوم التأسيس السعودي لا يقتصر على إحياء الماضي فقط، بل يتعداه إلى رسم ملامح المستقبل عبر تأكيد دور الشباب والمبتكرين في دعم مسيرة التنمية الوطنية. فقد أدركت القيادة السعودية أهمية دمج روح التحديث والابتكار مع الحفاظ على الأصالة التاريخية، ما أثبت أن التقدم لا يتعارض مع التاريخ، بل يُستلهم منه.
إن فهم مرحلة التأسيس والمراحل المختلفة التي مرت بها المملكة يعزز من إدراك أهمية التراث التاريخي والثقافي في مواجهة تحديات العصر الحديث؛ إذ تتيح هذه المعرفة للمجتمع استلهام الدروس والعبر من الماضي لتوجيه جهود الإصلاح والتنمية، كما تتجلى في رؤية 2030م التي تسعى إلى تحديث الاقتصاد وتعزيز مكانة المملكة عالمياً دون التخلي عن قيمها الثقافية والإسلامية. ومن خلال هذه الرؤية المباركة انطلقت العديد من المبادرات الشبابية التي تركز على استخدام التكنولوجيا والبحث العلمي لتعميق فهم التراث الوطني وترجمته إلى مشاريع مستقبلية تُسهم في تحقيق التنمية المستدامة. وبذلك، يُصبح يوم التأسيس مناسبة لإعادة التأكيد على أن الهوية الوطنية ليست مجرد ذاكرة بل هي طاقة حقيقية توجه جهود الوطن نحو غدٍ أكثر إشراقًا.
وفي الختام، يجسد يوم التأسيس السعودي عام 1727م قصة كفاحٍ وإنجاز وانتماء، تبرز من خلالها معاني التضحية والعمل المشترك الذي أنار دروب النهضة الوطنية. وهو يوم يستحق الإشادة والاحتفاء بكل ما يحمله من معانٍ سامية ودروس تاريخية ثمينة تُبقي شعلة الأمل والنمو مستعرة لدى أبناء الوطن، مؤكدين أن الإرث الحضاري الذي بناه الأجداد هو جسر يمتدُّ إلى المستقبل، يضيء الطريق لتحقيق المزيد من الإنجازات والتقدم لهذه المملكة الحبيبة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء- حفظهما الله تعالى.