نجلاء العتيبي
في كل أُمَّةٍ لحظاتٌ فارقةٌ تُحدِّد ملامح مسيرتها، وتُعيد تشكيل وعيها بتاريخها وهويَّتها.
ويومُ التأسيس السعودي ليس مجرَّد ذكرى تُستعاد، بل هو لحظة تأمُّل في الإرث العريق الذي أرْسى دعائمَه الإمامُ محمد بن سعود قبل ما يزيد على ثلاثة قرون، حين كانت الجزيرة العربية تعيش تشتتًا سياسيًّا وتنازعًا على النفوذ.
جاء تأسيس الدولة السعودية الأُولى كفعل تاريخي جسور جمع بين القوة والحكمة، ووضع اللبنات الأولى لدولة عميقة الجذور، ثابتة الأركان، تمتدُّ روحها في حاضر الأمة ومستقبلها. في هذا اليوم لا يحتفي السعوديون بماضٍ بعيدٍ وحسبُ بل يستعيدون قيم الوحدة والإصرار والازدهار التي صنعت كيانهم السياسي والاجتماعي.
فالفعاليات التي تواكب الاحتفال ليست مجرد عروضٍ تُبهر العيون، ولكنها جسور تربط الأجيال بجذورهم، وتعيد تعريفهم بالمسيرة الطويلة التي عبرتها البلاد من قرية صغيرة على ضفاف وادي حنيفة إلى دولة تُمسِك بمفاتيح التقدُّم والريادة.
حين يُضاء يوم التأسيس بالفعاليات لايكون ذلك استرجاعًا ساكنًا للأحداث، بل هو إعادة إنتاجٍ للزمن بأبعاده المختلفة، تتجسَّد العقود الثلاثة التي سبقت إعلان الدولة السعودية الأولى في مشاهد درامية تُعيد إحياء أبطالها، وترسم تفاصيل المدن والأسواق، وتحاكي بيئاتها الاجتماعية.
يجد المواطن نفسه أمام تجربة تفاعلية تجعله شاهدًا على لحظة التأسيس الأولى، كأنما يعبر الزمن عائدًا إلى نقطة التحوُّل التي غيَّرت مجرى الجزيرة العربية.
المعارض التراثية تستعيد فنون العمارة، ونقوش الأسلحة، وأساليب الحياة التي كانت سائدةً آنذاك لتُبرز كيف صاغت هذه الأرض مسيرتها بأيدي رجالها ونسائها.
فالعروض العسكرية تُذكِّر بالأبطال الذين دافعوا عن الحلم، والموسيقى التراثية تعيد إلى الأذهان أهازيج النصر التي أنشدها الأجداد في ساحات القتال.
حتى الأسواق التقليدية التي تُقام خلال الاحتفال ليست مجرَّد ديكور زمني، إنها فرصة لاستحضار روح الاقتصاد القديم حين كان التبادل التجاري ينبضُ بالحيوية وسط الطرق القوافلية، ويُشكِّل عصب الحياة الاقتصادية للدولة الناشئة.
لا تتوقَّف الفعاليات عند كونها مشهدًا احتفاليًّا؛ إذ تُسهم في بناء وعي جمعي يُدرك أن التأسيس لم يكن ضربة حظٍّ، إنما سلسلة من التضحيات والعمل الدؤوب.
حين يشاهد الشباب صور الفرسان الأوائل، ويدركون كيف بُنيت دولتهم بسواعد الأجداد تتعزَّز لديهم قيمة الانتماء، ويتجذَّر الإحساس بالمسؤولية تجاه استكمال هذه المسيرة.
فالتاريخ حين يكون حيًّا في وجدان الناس يتحوَّل إلى قوة دافعة لا تقبل الركون إلى الجمود.
وعبر هذه الفعاليات لا يتعامل المواطن مع وطنه بوصفه بقعةً جغرافيةً فحسبُ، بل ككيان له روح متجددة يُستلهم منه الصبر على التحديات، والعزيمة لمواصلة البناء.
المجتمع بكل فئاته يجدُ في يوم التأسيس لحظة تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل.
الأُسَر التي تصطحب أطفالها إلى الفعاليات تُعيد تعريفهم بهويتهم قبل أن تفعل المناهج المدرسية ذلك، فجيل المستقبل ينشأ على مشاهد التأسيس، وهو يُدرك أن الوطن لم يكن دومًا كما هو اليوم، بل خاض رحلة من التحديات والصراعات حتى غدا قوة سياسية واقتصادية لا يُستهان بها.
اليوم والمملكة في قلب التحوُّلات الكبرى تظلُّ روح التأسيس متجدِّدة تتجسَّد في كل مشروع يُبنى، وفي كل رؤية تُصاغ.
من صحراء الدرعية التي شهدت اللبنة الأولى إلى مدن المستقبل التي ترتفع على امتداد الوطن، يبقى التاريخ حيًّا في الذاكرة، وتبقى مسيرة النهضة امتدادًا لمسيرة التأسيس الأولى.
إن الاحتفال بيوم التأسيس ليس ترفًا تاريخيًّا، إنما ضرورةٌ لتعزيز الانتماء، ولضمان أن تظلَّ جذور الوطن ممتدَّة في تاريخه، وهو يُواصل مسيرته نحو المستقبل برُوحٍ لا تعرف المستحيل.
ضوء
«الأوطان لا تُبنى بالحظوظ العارضة، بل تُشيَّد بسواعد تؤمن برسالتها، وعقول تُدرك عمق تاريخها، وقلوب تنبض بالعزيمة، فلا يَهِن ماضيها ولا يتعثَّر مستقبلها».