د.عبدالله بن موسى الطاير
الله لا يولينا غيرهم، انْحن في وجه الله، كلمات نطقت بها امرأة سعودية كبيرة السن وتداولتها شبكات التواصل الاجتماعي، تحكي بطريقتها البسيطة الصادقة العلاقة بين القيادة والشعب في المملكة، وهي علاقة لم يعطها الدارسون أهميتها اللائقة، فهي تكاد تعبر عن عقد اجتماعي فريد من نوعه، نما وتطور وقوي مع الوقت وفي كل الظروف. ذكرتني تلك السيدة الوقورة بوالدتي، وكأنها تنطق بلسانها، وهي تلوذ بالله من أي هم أو شر قريب أو بعيد، فتجدها مباشرة تقول: انْحن في وجه الله.
ولاء السعوديين لقيادتهم ووطنهم ليس متعلقا بالمصالح، وإنما هو مبدأ راسخ وعقيدة يدينون الله بها. أعرف كثيرا ممن يتصدون للدفاع عن الوطن، لا ينامون الليل، وهو يخرسون كل لسان يمتد نحو القيادة والوطن بسوء، بينما هم لا يزالون في قائمة الانتظار للحصول على الوظائف المناسبة لهم، ومع ذلك فإن حب الوطن والولاء للقيادة لا علاقة له بالمصالح المتبادلة التي تؤطر علاقات الشعوب بحكامها؛ إذ بمجرد أن يتعكر مزاج الاقتصاد تتبدل المواقف من القادة والأحزاب.
خلال الأيام الماضية خرج السعوديون على شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الشوارع والميادين يعبرون عن صادق مشاعرهم تجاه القيادة والوطن بمناسبة ذكرى التأسيس، لم يقدم لهم أحد «رشوة» كما يتصور الكارهون في العالم الأول، عندما يفسرون هذه المشاعر وفق قولبة نفعية، ويتهمون المملكة بأنها تشتري ولاء مواطنيها. هذا من أسخف التعليقات التي أسمعنيها بعض الصحافيين الغربيين، وذلك لأنهم ببساطة يقيسون أحوال الآخرين على أحوالهم، بينما القيادة السعودية تسهر على راحة المواطن، وتضع مصلحته أولا، وليس تقديم مصالح حزبية وأجندات أيدلوجية تنتصر للذات على حساب المصلحة العامة.
كلنا نتذكر تصريح سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عندما قال: إننا نعود إلى ما كنا عليه من قبل - دولة الإسلام المعتدل المنفتح على جميع الأديان والعالم- لن نضيع 30 عامًا من حياتنا في التعامل مع الأفكار المتطرفة؛ سندمرها اليوم. وقد وفى بوعده، فالعودة كانت إلى دين صحيح معتدل، وإلى جذور قيام الدولة التي تحدّت الضغوط الداخلية والخارجية لتزدهر وتسقط، ثم تنهض وتسقط، ثم تنهض وتوحد معظم شبه الجزيرة العربية في المملكة العربية السعودية التي هي اليوم ملء سمع العالم وبصره.
وقبل ذلك بعقود كتب المؤرخ الروسي أليكسي فاسيلييف في تاريخ المملكة العربية السعودية بأن قيادة الدولة السعودية «كان نقطة تحول في التاريخ العربي، فقد أرسى الأساس لكيان سياسي سيستمر لقرون، يمزج بين الإحياء الديني والحكم القبلي». لقد شكلت المملكة منذ البداية هويتها، واستثمرت مقوماتها ونقاط قوتها، وصنعت نظام حكم فريدا من نوعه لم يُستق من الغرب ولا من الشرق، وإنما خلطة محلية عبقرية أثبتت قدرتها على الحياة لثلاثة قرون وهي تزيد. ويضيف المستكشف البريطاني تشارلز مونتاجو دوغتي، الذي سافر عبر شبه الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر قائلا: إن أسرة آل سعود «برزت كقوة موحدة في أرض من الانقسامات القبلية، فأسست دولة متجذرة في المبادئ الإسلامية والولاء القبلي».
ويتفق معه المؤرخ ويليام فيسي بقوله: «لقد أظهرت الدولة السعودية الثانية قدرة آل سعود على التعافي من الشدائد، والحفاظ على رؤيتهم للدولة العربية الموحدة على الرغم من الضغوط الخارجية والتنافسات الداخلية». الأمر يتعلق بكفاءة القيادة الفطرية التي صبها الله صبا في هذه الأسرة، التي بدأت بمحمد بن سعود، وهي تزدهر بعد 300 سنة بمحمد بن سلمان.
وصف الدبلوماسي البريطاني السير بيرسي كوكس، الملك عبدالعزيز، بما يمكن إسقاطه حرفيا على الأمير محمد بن سلمان: «كان ابن سعود رجلاً يتمتع برؤية وتصميم غير عاديين، لقد وحدّ قبائل الجزيرة العربية بمزيج من البراعة العسكرية، والذكاء السياسي، والشرعية الدينية».
ويعتبر الصحفي الأمريكي لويل توماس في كتابه «مع لورنس في الجزيرة العربية» أن ابن سعود «شخصية شامخة، ومحارب صحراوي حوَّل أرضا مجزأة إلى مملكة موحدة. إن إرثه هو الدولة السعودية الحديثة، وهي شهادة على زعامته». ولم يتوقف الأمر عند الصحافيين والمؤرخين والرحالة، فرئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق فرانكلين روزفلت قال بعد لقائه بالملك عبدالعزيز في عام 1945: «إن عائلة آل سعود تحمل المفتاح إلى واحدة من أكثر المناطق أهمية من الناحية الإستراتيجية في العالم، وسوف تشكل قيادتهم مستقبل الشرق الأوسط»، وقد شهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد ثمانين عاما نبوءة سلفه روزفلت تتحقق.