عبدالوهاب الفايز
هذا العام جاءت ذكرى يوم التأسيس ومعها عدد من الإيجابيات المفرحات، ولعلنا في كل مرة نستقبل الذكرى نستعد لتقديم الأمور التي تُسعد المواطن، وتُعزز الجبهة الداخلية، بالذات في الأمور التي تعكس روح الدولة، وروح الإجماع والوحدة الوطنية.
هذا العام لدينا عدة أمور إيجابية يجب الوقوف عندها مثل: الرمز الجديد للريال السعودي، وانطلاق محادثات السلام بين أمريكا وروسيا من بلادنا، وهذه سابقة تاريخية. كذلك لدينا الفيلم الوثائقي القصير (مهمة العوجا) الذي بثته وزارة الدفاع في ذكرى التأسيس، ولدينا مبادرة تسمية الميادين الرئيسة في الرياض بأسماء قادة بلادنا. كل هذه تستحق الوقفات الطويلة.
مؤسسو وقيادات بلادنا في الميادين.. المضامين الكبرى
من الأمور التي تجعلنا نسعد بتخصيص يوم لاسترجاع مراحل التأسيس الأولى للدولة هو المسار المؤدي إلى إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية الوطنية بحيث نسترجع التضحيات الكبيرة والتحولات الثقافية والاجتماعية التي مررنا بها. لذا سعدنا هذا العام بالإعلان عن تسمية ميادين العاصمة الرئيسة بأسماء مؤسسي الدولة وقياداتها. فالأسماء تقدم للشعوب دلالة على المراحل المهمة والمفصلية في تاريخها، وهذا ما شهدته بلادنا في مراحل تأسيس الدولة وإعادة بنائها.
لذا، وضع الأسماء في الميادين العامة يحمل لنا أبعادًا رمزية لتخليد وتكريم تاريخ هذه الشخصيات البارزة التي أسهمت في تشكيل هوية الدولة، وكان لها السبق في الدفاع عنها، وتحقيق الإنجازات الكبيرة التي خدمت أجيالها المعاصرة.
وكما هو الحال مع اعتماد الرمز الجديد للريال، أيضاً تسمية الميادين يعزز الهوية الوطنية والانتماء، ويذكّرنا بتاريخ وتراث بلادنا، وهذا يكرس مشاعر الفخر والانتماء الوطني. ولا ننسى أهمية بناء القدوة وتكريس منظومة القيم، فإبراز الشخصيات الوطنية في الفضاء العام يُبقي تاريخها المشرف حيا مما يجعلها قدوة إيجابية للأجيال المعاصرة والقادمة.
أيضاً وضع أسماء القادة والرموز في الفضاء العام يخدم بناء الثقافة والمعرفة، إذ يسهم في تنمية وعي وثقافة المواطنين حول الشخصيات التاريخية ودورها الوطني المؤثر. من هنا نجد أن تسمية ميادين العاصمة ليس مجرد تكريم رمزي، بل هو رسالة تحمل أبعادًا تاريخية وثقافية واجتماعية عميقة. ولعل هذه الخطوة تتوسع إلى بقية ميادين مدن بلادنا.
الريال في الواجهة العالمية
مع حلول ذكرى التأسيس لبلادنا، تم البدء في تنفيذ توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، يحفظه الله، لاعتماد الرمز الجديد للريال. هذه الخطوة التاريخية وحسب ما جاء في التصريحات الرسمية هدفها (تعزيز هوية العملة الوطنية، وهوية المملكة المالية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتستهدف تشجيع الاعتزاز بالهوية الوطنية والانتماء الثقافي، وإبراز مكانة الريال السعودي وتعزيز الثقة به، وإظهار مكانة المملكة ضمن الاقتصادات العالمية الكبرى، ودول مجموعة العشرين).
هذا الرمز الجديد للريال في تصوري يقدم أيضاً أمراً مهماً نتحدث عنه كثيرا: هو انتصار نوعي متجدد ومتواصل للغة العربية والخط العربي، فالتصميم المستوحى من التراث الثقافي العريق للمملكة ومن فنون الخط العربي يدمج الأصالة بالمعاصرة، ويتيح سهولة الاستخدام بين العملات العالمية مما يعزز الهوية المالية للريال.
فالشكل الجديد، الجميل السهل الممتنع، سوف يظهر في جميع المعاملات البنكية سواء على المستوى المحلي أو الدولي، وكذلك سوف يستخدم في التقارير الاقتصادية والمالية، وفي مجال التجارة الإلكترونية، والتطبيقات الرقمية، وأيضا في التعاملات التجارية الدولية، وفي بطاقات الأسعار والفواتير الرسمية، وفي البورصة والأسواق المالية.
إنه حضور نوعي للغة العربية وللخط العربي. وهذا الاهتمام من القيادة بكل ما يعكس هويتنا وحضارتنا وقوة مكانة بلادنا الروحية والاقتصادية والسياسية، ليس أمراً جديداً بالذات في الشأن الثقافي وفي كل ما يخدم اللغة العربية. المملكة أنشأت (مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية) ليكون راعي الاهتمام باللغة العربية، ومُطلق المبادرات والمشاريع المحلية والعالمية. إنه استمرار لما قدمته الحكومة من برامج وأنشطة ثقافية متنوعة لتعزيز انتشار اللغة العربية في المحافل والمناسبات الدولية.
لذا، جميعاً نسعد بهذا التطور الجديد الذي يخدم هوية بلادنا، حيث «يلبي تطلعات ومستهدفات (رؤية المملكة 2030) وبرامجها لجعل المملكة مركزا ماليا عالميا. وقبل هذا أصبحنا نسعد حين نرى التزام وحرص القيادات والمسؤولين الحكوميين على استخدام اللغة العربية في المؤتمرات واللقاءات الرسمية في بلادنا، فهذا مكمل ضروري وأساسي للاعتزاز باللغة العربية وبالزي الوطني، فكل هذه تعزز وتحفظ الهوية الوطنية لبلادنا.
السلام العالمي يختار الرياض
أيضا احتفاءنا بذكرى التأسيس، تزامنا مع اختيار الرياض لتكون منطلق وملتقى محادثات السلام الأمريكية - الروسية لوضع حد للحرب في أوكرانيا. هذا الاختيار لم يأت من صدف الأمور، وربما استغربته بعض الأصوات.
وهؤلاء نقول لهم: لماذا الاستغراب؟ هذا ثمن الحياد الإيجابي الذي يُبني على المصالح العليا للشعوب، ويُبني على النوايا الصادقة الساعية لكي تعيش الشعوب بأمن وسلام وتتفرغ لعمارة الأرض وإشاعة الخير بين البشر. وهذا هو حالنا في السعودية، فالإصرار على البناء والإعمار المستمر يجعلنا نتطلع إلى المزيد من البناء والاستقرار؛ والبناء مهمة صعبة ومكلفة.
ولهذا السبب ننزعج ونتألم حين نرى الشعوب تفقد أمنها وسلامها، وتفقد البيوت التي تؤويها. وهذا الانشغال بالبناء يجعلنا نبتعد بأنفسنا وببلادنا عن الخلافات والمشكلات، ولا نتأخر حين تلوح الحاجات الإنسانية، فحينئذ تضع بلادنا مكانتها وإمكاناتها وعلاقاتها في خدمة السلام والتعايش بين الشعوب.
وهذا الذي جعلنا مفتاحا للخير ومغلاقا للشر. السعودية أرادت واستطاعت أن تكون في الوسط، وتتحمل الكثير من التحديات والمتاعب لأجل هذه الوسطية الإيجابية. إن إرضاء كل الأطراف والصبر حين المكاره ليس أمراً سهلاً، يجيده فقط الكبار من القادة وتتحمله الشعوب المحبة للسلام والبناء.
(مهمة العوجا).. هدية وزارة الدفاع
في ذكرى التأسيس اختارت وزارة الدفاع تقديم واحدة من صور البطولة والوفاء والتضحيات التي يقدمها جنود بلادنا الساهرون على أمننا في كل الثغور والجبهات. هذا الفيلم هو بمثابة (الهدية الخاصة) لكل مواطن سعودي. هدية يقدمها أفراد القوات المسلحة لنا وهم يقولون: نستحق الوفاء.. فلا تنسوننا من صادق الدعاء!
تقديم الوثائقيات المبنية على الأمور الحقيقية الواقعية لا تقف أهميتها عند الاحتياجات التقليدية لمتطلبات التعبئة النفسية والمعنوية للقوات المسلحة، بل هي تقدم صور التضحيات النبيلة لأبناء بلادنا في ثغور الوطن الكبير الشامخ.
هذا الفيلم أعادني إلى مقترح طُرح قبل ربع قرن في ندوة إعلامية توليت إدارتها وتناولت أهمية مساهمة الأعمال والمنتجات الفنية الدرامية التلفزيونية والسينمائية في مواجهة تحديات التنمية وما تتطلبه من جهود البناء والتطوير. مقترح الندوة الرئيس كان حول ضرورة إنشاء شركة وطنية كبرى للإنتاج التلفزيوني السعودي، تدار بمهنية واحترافية تحميها من تسلق المصالح الخاصة، بحيث تجمع الفنانين والمُخرجين والمُعدين والكتاب والروائيين والإعلاميين. مضت السنوات وما زلنا نحلم، وبعض الفنانين والمخرجين والمؤلفين ظل يعمل لوحدة، أو استثمر ثم تعب وخسر، وهناك من يجلس في الظل وحيدا وتم نسيانه!
البعد الاقتصادي الإيجابي من جدوى الشركة متعدد ومتعدي الأثر في الزمان والمكان. كنا نتمنى ونتطلع أن يكون كل هؤلاء مساهمين في هذا المشروع الوطني، ويتشاركون مع كيانات مُمولة سيادية وطنية. والهدف أن يكون هذا الكيان النوعي (ذراع الدولة والمجتمع) الذي نستثمره لمشاريعنا الوطنيّة الكبرى. عندما واجهت بلادنا موجة الإرهاب والخراب تذكرنا أهمية هذا الذراع الوطني، وحين جاءت الرؤية واتضح أهمية الاتصال وإدارة التغيير تذكرنا هذا الذراع الوطني. وسوف نظل نتذكر حلم بناء هذا الكيان الإعلامي حين نتطلع إلى الاحتفاء والتكريم لتضحيات أبناء وبنات بلادنا ورجالاتها وقادتها في الجبهات العسكرية والأمنية الواسعة. كم هي المليارات من الريالات التي أنفقت على البرامج والمسلسلات التي ذهب أثرها تذروه الرياح؟!