د. جمال الراوي
المهاجر -أينما حل- يثير دوافع عنصرية لدى مضيفيه، وما يزيد الأمر سوءًا إعطاء المهاجر دوافع العنصرية ضده، كأن يزاحمهم على أرزاقهم، أو يلجأ إلى طرق غير رشيدة، توغر صدور مضيفيه، لأنه لا يحترم أنظمة وقوانين البلد المضيف، يحاول تجاوزها!! ولا شك بأن الكثير من المهاجرين أصابهم البلاء، فوجدوا في البلاد القريبة والبعيدة مكانًا آمنًا لهم، لكن البعض منهم أعطى صورة قاتمة سيئة عن بلدهم، حيث بدأت الأمور بالترحيب بالمهاجرين، وكان المضيفون يتعاطفون معهم، لأنهم يرون فيما حدث في ديارهم مأساة إنسانية، تستوجب التخفيف من آثارها، ومع تقادم الأيام، ظهرت مساوئ بعض المهاجرين، وظهر بأنهم أبعد ما يكونون عن أصحاب مأساة، لأن البعض منهم ظهر بأنهم انتهازيون محتالون، لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية!
وقد تتحول مظاهر العنصرية إلى مجازر، بسبب عدم احتمال بعض المتطرفين -في البلد المضيف- لهؤلاء المهاجرين، خوفًا من تغيير ثقافتهم المجتمعية، أو خشية تعديل التركيبة السكانية والطائفية والعرقية فيه! والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)، يخاطب الله تعالى الناس جميعًا، يقول لهم بأنه خلقهم مختلفين شكلًا ولسانًا، وجعل بينهم تفاوتًا في العادات والتقاليد، واختلافًا في البيئة والمكان، وتباينًا في الحظوظ والأرزاق، لكنهم يعودون إلى أصل واحد، ولا يقتضي هذا الاختلاف التناحر والتخاصم والتقاتل، وعليهم أن يتعاونوا -فيما بينهم-، فالأرض تتسع لهم جميعًا، ليس للون والجنس والمال والأصل أي فضل لقوم على آخرين، و{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي ، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن» (صحيح الجامع للألباني).
ويمكن العودة إلى السيرة النبوية، لنجد ظاهرة العنصرية موجودة، حتى في هذه الفترة النبوية، فبعد غزوة بني المصطلق، اقتتل مهاجر مع أحد الأنصار على الماء، فصرخ الثاني: يا معشر الأنصار، وصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين، فسمع «عبدالله بن أبي بن سلول» هذا الكلام، فقال: «أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، وبدأ يلوم قومه: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم».
وفي غزوة «حنين» غنم المسلمون منهم غنيمةً عظيمة، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئًا، الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم لنصرة الإسلام، والدفاع عن الرسول، فكأنهم وجدوا في أنفسهم، إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، وقالوا بحسرة وأسى: «سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم»، فلم يتمالك سعد بن عبادة -رضي الله عنه- نفسه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصارحه ويخبره بما يجول في خواطر الناس، فلما أخبره بذلك، تعجب كيف حل ذلك في قلوبهم، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من ذلك يا سعد!»، قال سعد: «ما أنا إلا من قومي)، لم يجامل ويحابي النبي، بل صارحه بما جبل عليه قلبه. فقال الرسول: «فاجمع لي قومك».
و هنا جاءت بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم وحصافته وحنكته القيادية، في وأد هذه الفتنة، وخطب في الأنصار خطبة بليغة، لا يوجد لها مثيل على وجه الأرض، زلزلت قلوب هذا الرعيل الأول وأدمعت عيونهم، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي، ألم تكونوا مشركين تائهين ضائعين، فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، كنتم متفرقين متناحرين، يقتل بعضكم بعضا، فألفكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي، كنتم فقراء معدمين لا مال لكم، فأغناكم الله بي)، فردوا: الله ورسوله أمن (أي: المنة والفضل لله ورسوله)، فقال لهم: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله!، قالوا ودموعهم تسيل على خدودهم: الله ورسوله أمن، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، كذبك كفار مكة وكل الناس فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، خذلتك قبيلتك وقومك فنصرناك وأيدناك، وطريدًا فآويناك، طردوك وشردوك فآويناك وحميناك، وعائلًا فواسيناك، فقيرا معدما فواسيناك بكل ما نملك، لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»، وبعد أن سمع الأنصار هذا الكلام، بكوا رضي الله عنهم وأرضاهم بكاءً شديدا، حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظًا.
من يعش في الغربة، لا يغادره هاجس العنصرية؛ فيحاول -في كثير من الأحيان- التغاضي عن الكثير من المواقف المؤلمة، وقد يجد العذر لمن يخاطبه أو يعامله بعنصرية، للحفاظ على كرامته، لذلك يحرص على عدم التدخل في شؤون مضيفيه وأحوالهم، لأنه لا يحق له أن يًبدي رأيًا في أي أمر خاص بهم، وأنه لا سبيل سوى المعاشرة بالمعروف وبالأخلاق العالية، والإخلاص بالعمل وإتقانه على الوجه الذي يرضي الله، وأن عليه أن يبادلهم الود والاحترام، وسوف يجد بأنهم يحبونه مثلما يحبهم، ويتعاطفون معه طالما يحترم خصوصياتهم، وسوف يجد بأن من استضافوه رفقاء درب في هذه الحياة، للفوز في الدنيا والآخرة.