د.حادي العنزي
بين دروب الحياة تسير الخُطى نحو أملٍ يُضيء الطريق، وخوفٍ يختبئ ثم يظهر من جديد. وفي كل خطوةٍ نعيش صراعاً بين الرجاء واليأس، وبين العجز والإقدام، تحت رحمة الرحمن ذي الجلال والإكرام. فالقلوب تهفو إلى النجاح، لكنها مُثقلة بعبء المجهول، والأرواح تُعانق السماء، وهي مُجنحة بخيوط الخوف ومكبلة بحيرة التردد وقلق الانتظار.
ومع ذلك، فاز باللذات من كان جسوراً، واقتحم مجهولاً، وصارت أحلامه نوراً.
أزعم - مجازًا - أن النجاح قلق، وأن الفشل استرخاء، ومن لا يقلق لا يتفوق، ولن يصل إلى القمة إلا الخائفون من الفشل. وما بين قمة النجاح وقاع الفشل يختبئ القلق الغامض في تجربةٍ وهمية ربما تتكرر أو لا تتجدد، وكلاهما احتمال فرضية يكون أو لا يكون.
على سبيل المثال، انظر إلى العالم توماس إديسون، الذي جرب أكثر من ألف طريقة لصنع المصباح الكهربائي قبل أن ينجح. كان القلق من الفشل هو الدافع الذي جعله يقول: «لم أفشل، بل اكتشفت ألف طريقة لا تصلح.» تخيل لو استسلم إديسون للراحة أو الملل، هل كنا سنعرف النور الذي نعيش فيه اليوم؟
الحياة ليست خطًا مستقيماً من النجاحات أو الإخفاقات، بل هي مزيج من الصعود والهبوط، كمدٍّ وجزرٍ في بحر الأيام. ومن المستحيل أن يبقى الإنسان على حالٍ سرمدية، سواء في النجاح أو الفشل، فالركود على وضعٍ واحد - سلباً أو إيجاباً - هو آفة تسبب الملل وتُطفئ الحماس! تشير الدراسات إلى أن تكرار الشيء نفسه يقلل الانتباه، ويضعف التفاعل، ويُوّلد شعوراً باللامبالاة. وأظهرت دراسة حديثة أجرتها جامعة كولومبيا البريطانية أن التغيير المنتظم في المشاعر أو الظروف يُسهم في تحسين الصحة النفسية، وأن التحديات السلبية، رغم صعوبتها، تُساعد الإنسان على الوصول إلى مراحل جديدة من الصمود النفسي. كما أن النجاح المفرط أو البقاء في حالة من الإنجاز المطلق لفترات طويلة قد يؤدي إلى الرضا الزائد، الذي ينتهي بانخفاض الحافز. وكأن الكون يُعيد تذكيرنا بسنة كونية حتمية: وهي تعاقب الليل والنهار. فلو بقي أحدهما دون الآخر، لما استطعنا أن نتحمل أو نعيش.
أبو الطيب المتنبي، شاعر الطموح والتمرد على الواقع، كان دائم السعي وراء المجد والتميز، ويرى في القلق والمخاطرة مفتاح المجد والخلود، وهو القائل:
«إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ
فلا تقنع بما دون النجوم»
فهو شاعر لا يرضى بالقليل، ويسعى دوماً إلى ما وراء القمم العالية، وعدم القناعة بما هو أقل من النجوم. وهو لا يرى المغامرة عائقاً، بل حافزًا يوقظ العزيمة، ويحث الإنسان على تجاوز المخاوف من المجهول لتحقيق أحلامه.
ومثله الشاعر أبو القاسم الشابي الذي يقول:
«سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء»
وهي من الأبيات الجميلة التي تبرز فلسفته في مواجهة التحديات والقلق برؤية إيجابية، حيث يخبرنا أنه، رغم الصعاب والألم، سيستمر في التحليق عاليًا كالنسر، رمز العظمة والطموح. كان يؤكد لمحبيه أن القلق الإيجابي طاقة تحفز الإنسان على المضي قدمًا نحو تحقيق الهدف، وأنه يرفض أن يكون أسيرًا للمخاوف أو العقبات.
ومثل شعرهما تجربة ستيف جوبز، الذي كسر الحاجز بين التكنولوجيا والحياة اليومية عبر ابتكار منتجات ثورية تُغيّر العالم، مثل الآيفون الذي يستخدمه أكثر من 1.4 مليار شخص (حسب إحصاءات 2023). وأعاد بإصراره على التميّز تعريف معايير الصناعة، مما دفع الآخرين إلى التفكير خارج الصندوق.
القلق، في جوهره، ليس عدواً كما يظن البعض، بل شعلة خفية تُوقِد شرارة التغيير في ظلام السكون. هو الحافز الذي يدفع الإنسان لأن يرى أبعد مما تراه أعينه المعتادة. كأنه الريح التي تُثير أمواجاً راكدة في بحر الروح، فتُعيد تشكيله ليصبح أكثر عمقاً وإبداعاً.
البشر غالباً يهربون من القلق، ويلجئون إلى المألوف لأنهم يريدون الأمان، وهم يعشقون التجديد. فمنهم من يغامر ويترك المألوف نحو المجهول المأمول، ومنهم من يتمسك بالمألوف كملاذٍ من المجهول. لكن هذا الاعتياد يطفئ وهج الإبداع، ويحوّل الحياة إلى لوحة باهتة الألوان.
الرسام الإسباني بابلو بيكاسو، الذي قال: «كل طفل فنان.. المشكلة هي كيف تبقى فناناً عندما تكبر.» لو استسلم بيكاسو للركود والمألوف، لما ابتكر أسلوبه الفريد «التكعيبية»، الذي غيَّر مسار الفن الحديث.
وهنا تظهر ريشة الإبداع في داخل الإنسان، لترسم لوحته بألوان زاهية تُعبر عن التفاؤل، أو بألوان قاتمة تعكس التشاؤم والخوف. وكلما تمازجت الألوان الزاهية في بريقٍ مُشرق، شعر الإنسان بجمال لدغة القلق ولذة الاكتشاف. فالقلق عكس الركود، يفتح نافذةً تُطل على عوالم لم تكن يوماً في الحسبان. إنه دعوة للانطلاق في رحلة جديدة، حيث المجهول يحمل معه دهشةً وإلهامًا.
إن سر الحياة يكمن في التوازن بين المألوف والمجهول، بين الراحة والقلق، بين الأمان والخوف. فالعقل البشري كريشة فنان بارع، يُلوّن الحياة بما يختاره من ظلال وأضواء. فإذا ظل العقل حبيس المألوف، رسم لوحة باردة، لا تُثير في القلب نبضاً ولا في العين بريقاً. وإذا تجرأ على الخروج من دائرة الأمان، امتدت ألوانه إلى آفاق لا حدود لها، وأصبح لا يرضى بما دون النجوم.
التغيير ليس خياراً، بل ضرورة؛ فالدماغ يحتاج إلى محفزات جديدة ليبقى نشطًا ومبدعًا. اجعل من حياتك لوحة تُبهر الناظرين، ومن كل خطوة في المجهول مغامرة تُضيف لوناً جديدًا إلى ريشة الإبداع. اكسر روتينك اليومي، حاول تجربة شيء جديد كل يوم، ولو كان بسيطًا. اسأل نفسك: هل ما أفعله الآن يُرضيني؟ هل هناك شيء أفتقده؟
علينا أن ندرك أن القلق شعور إنساني طبيعي يمكن أن يتأثر بالعديد من العوامل الثقافية والاجتماعية، وأننا نحن الذين نتحكم به. فهو إما يكون الدافع الذي يحفزنا على التغيير والنمو، أو يكون المرض الذي يأخذنا نحو أعماق الظلام والخوف، فيصبح عبئًا خانقًا ومدمرًا. وهو ليس عدواً كما يتصوره البعض، بل صديقاً يمنحنا لذائذ أكبر مما اعتدنا عليه.
لا تخف من القلق، فهو دافعك نحو الأمام، ولا تستسلم لراحة المألوف التي تُحبسك في زنزانة مظلمة تسلبك بهجة الاستكشاف وتضعك في عالم باهت الألوان. اجعل حياتك لوحة نابضة بالإبداع والجمال، حيث يُضفي القلق لمسة من الظلال التي تجعل ألوان التفاؤل تتألق بوضوح. دع كل خطوة نحو المجهول تكون مغامرة تضيف لمعانًا جديدًا إلى حياتك.
القلق ضوء الإبداع، والملل انطفاء الروح وخمود الذات. الخوف من الحياة ومستقبلها لا يجلب سوى التعب والحزن والانكسار. لذلك، كن قلقًا بطريقة إيجابية، ولا تكن منغلقًا على ذاتك. لا تتوقف متردداً عند مفترق الطرق. انطلق نحو أعالي النجوم، وتجنب المسارات المنحدرة، فهي تأخذك في دروبٍ متعرجة وغير معبدة توصلك إلى قلق الركود والجمود.