سطام بن عبدالله آل سعد
لطالما صُوِّرت العلاقة بين المناطق الحضرية والريفية على أنها تبعية أحادية، حيث يُنظر إلى الريف كمورد للمدينة، بينما تُعتبر الحواضر مراكز للنمو والتطوير. هذه الرؤية تُنتج نمطًا غير متوازن يجعل التنمية الريفية امتدادًا مشروطًا للتوسع الحضري، بدلًا من أن تكون عملية تكاملية قائمة على التبادل المتكافئ.
التفاوت بين الحضر والريف لا يرتبط فقط بالخدمات والبنية التحتية، بل بجوهر العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بينهما. فالنموذج الحالي يجعل المدن مراكز استهلاك ومعالجة، بينما يقتصر دور الريف على تزويدها بالمواد الخام. هذا الفصل لا يُعزز الاستدامة، بل يكرّس اعتمادًا غير متكافئ يُضعف قدرة الأرياف على خلق منظومة إنتاجية مستقلة.
إنّ إعادة تعريف هذا التفاعل يتطلب نقل الريف من كونه مزودًا للموارد إلى بيئة إنتاج قائمة على المعرفة والابتكار. فبدلًا من تصدير التكنولوجيا من المدن، يمكن تحويل المناطق الريفية إلى منصات بحثية تطور تقنيات زراعية وصناعية متقدمة، مدعومة باستثمارات حضرية. هذه المقاربة تحول الريف من منطقة إمداد إلى شريك في النمو، يساهم في إعادة تشكيل الاقتصاد الإقليمي وفق أسس أكثر استدامة.
العلاقة التقليدية الحالية بين الحضر والريف تخلق حلقة مفرغة، حيث تعتمد المدن على الريف في توفير المواد الخام، بينما تبقى الأرياف معتمدة على الخدمات الحضرية. ولكسر هذه الحلقة يتطلب اقتصادًا أكثر توازنًا، يستثمر في قدرات الريف الإنتاجية بدلًا من إبقائه في دور التابع. فالصناعات التحويلية، والطاقة المتجددة، والزراعة الذكية، كلها مجالات يمكن أن تُعيد تشكيل الأرياف كمراكز إنتاج مستقلة، تساهم في التنمية بدلاً من أن تكون مجرد امتداد هامشي للحضر.
وعالمياً، أثبتت التجارب أن الأرياف قادرة على أن تكون منصات ابتكار، كما هو الحال في وادي السيليكون الزراعي في كاليفورنيا، حيث تحولت المجتمعات الريفية إلى مراكز متخصصة في التكنولوجيا الزراعية. ومثل هذه النماذج يمكن تكييفها وفق الإمكانات المحلية، خاصة في الدول التي تمتلك مساحات واسعة غير مستغلة، حيث يمكن تطوير مناطق ابتكار زراعي وصناعات قائمة على الموارد الطبيعية، مدعومة بتقنيات حديثة واستثمارات استراتيجية.
إعادة هيكلة العلاقة بين الحضر والريف تتطلب سياسات تدعم خلق اقتصادات محلية متماسكة، وتعزز الاستثمار في المشروعات الإنتاجية داخل الأرياف، وتوفر حوافز للشركات التي تبني صناعات متكاملة خارج نطاق المدن الكبرى. وتحقيق هذا التكامل لا يكون بتوسيع نفوذ الحضر، بل ببناء شراكة متوازنة تضمن تدفق الفرص بين الطرفين بشكل عادل.
المستقبل لا يُبنى على بقاء الأدوار التقليدية، بل على تكاملٍ جديد يجعل الريف فضاءً للابتكار والنمو، لا مجرد مخزنٍ للموارد. فالتنمية الحقيقية لا تتحقق بامتداد المدن على حساب الأرياف، بل بإعادة صياغة العلاقة بينهما بحيث يصبح كل منهما رافدًا للآخر في منظومة اقتصادية مستدامة ومتوازنة.
** **
- مستشار التنمية المستدامة