سهام القحطاني
يرى الدكتور عبدالله العروي في كتابه «ثقافتنا في ضوء التاريخ» أن كلمة التاريخ تجاوزت عند الأمم معنى إطارها اللغوي، لتمثل «معاني متعددة ناتجة عن تساؤلات منهجية ومعرفية وفلسفية مختلفة» يوضحها وفق موقف وظيفة قارئ التاريخ، فالمؤرخ ينظر إلى التاريخ بأنه سرد وتحقيق للفعل الماضي، في حين ينظر إليه الفيلسوف بأنه «مجموع القوانين التي تشير إلى مقصد خفي يتحقق تدريجياً أو جدلياً»، ويتساءل ذلك الفيلسوف أمام التاريخ عن «ماهيّة الإنسان عما يميزه عن سائر الكائنات فيقول إنه التاريخ».
هذا المسار في جذريها السردي والفلسفي في رأيه هو الذي يُخرج معنى التاريخ من دلالته عبر مشكلات تتعلق بالماهية والوظيفة تعترض عند «تحديد مفهوم التاريخ»، وتنبع من مفارقتين هما: مستوى وعي الإنسان بتاريخيته التي تحدد له البداية واحتمالات النهاية، والثاني أن ذلك الوعي بتاريخه يدفعه إلى «نفيه» من خلال «السرد التاريخي لماضيه، وكلما اشتدّ وعيه اشتدّت رغبته في ممارسة ذلك النفي؛ لميله إلى رسم صورة مثالية لماضيه.
هاتان المفارقتان ما بين سرد أحداث الماضي والوعي بالتاريخ والرغبة في محوه، تمثلان تجربة أساسية تجعل الفيلسوف «عاشق الحقيقة الدائمة» والمؤرخ «راوي الحدث العابر يتعارضان ويتكاملان باستمرار» - ص 10 -.
ويرى أن الأساطير هي التي أسست «للرواية التاريخية» وهي الجذر الأول لكتابة التاريخ كمعرفة، لكن تلك الروايات التاريخية لا يمكن أن تمثل «التاريخ كمعرفة»؛ لأنها لا تهتم «بتتابع الأحداث بقدر ما تهدف إلى الكشف عن الثابت من خلال المتغير العابر؛ فهي بالتالي «وسيلة لتغليب الثابت على المتحول».
ما يقصده هنا العروي هي الوظيفة الدرامية للرواية التاريخية الموجهة للمتلقي؛ لإحداث أثر فني تقوده إلى الكشف إلى حقيقته الإنسانية الصالحة الثابتة والتخلي عن مفسدات تلك الحقيقة الصالحة - المتحول -، وهي ذات وظيفة «التطهير» التي قررها أرسطو لقيمة الدراما على المسرح.
وفي رأيه تختلف وظيفة الرواية التاريخية عن وظيفة «السرد التاريخ» اختلافاً يعود إلى القصدية الوجدانية التي تسعى إلى تحقيقها لإحداث تغيير في سلوك المتلقي، لكن وظيفة «السرد التاريخي» المحافظة على صدقية وواقعية السرد التاريخي ومنطقيتىه الزمانية دون تدخل المؤثرات الوجدانية.
ويرى أن الرواية التاريخية أرهصت لفلسفة التاريخ، ويفرق بينهما أن الرواية التاريخية تنطلق من تأثير الأساطير على عقل المتلقي وتأثيراته النفسية، في حين أن فلسفة التاريخ تغوص في الجوهر العقلي لمضمون الأسطورة، وبذلك فالفرق هو في تدبير التأثير ومضمونه ودرجة الوعي المتنامية، فكلما تطور الوعي قلّ التأثير الوجداني بالأسطورة وزاد التحليل العقلي لأصل مادتها، والذي ينكشف من خلالها التطور العقلي للإنسان ورؤيته للأشياء.
إن فكرة الدراما في تطهير الذات الإنسانية التي ارتبطت بالرواية التاريخية ظلت مسيطرة على السرد التاريخي في ظل واقعيته؛ إنه اختبار للاختيار في ضوء حاصل معلوم، وهو المعنى الأصلي الذي يصفه بقوله «تربية الإرادة»، ويوضحه بأن «التاريخ هو مجموعة أدوار ومواقف، معروفة ومحدودة يطلع عليها القارئ ويتقنها ليختار صورته في السجل اللاحق، هل يريد أن يكون مثل أو مثل..؟ بجانب أو بجانب؟ أليس هذا أهم اختيار في حياة الإنسان التاريخيّ؟. - ص14 -
هذه القصدية التي يسعى إليها المؤرخ أثناء سرده للرواية التاريخية لكونه «يتفهم ويُفِهم» تؤطر تلك الرواية ضمن كيفية خاصة متجردة من خصوصية الظرفية المكانية والزمانية، وهو ما يُخرج السرد التاريخي من عالم الأموات إلى «عالم مُثُل متواجدة في ذهن المؤرخ «، معبرة عن فلسفة حياتية تقدمها تلك الرواية، وهذه القصدية هي أساس المذهب التاريخاني.
ومن عيوب هذا المذهب - كما يقول العرويّ - حصر مفهوم «التاريخ في أعمال الإنسان الوعي» وتحليل قصد المشاركين في الواقعة التاريخية، ورفض «اللجوء إلى مفهوم العلة»، وإنكار «أن يكون للطبيعة تاريخ كالإنسان».
لذلك لا يعتبر العروي «التاريخانيّة» مذهباً فلسفياً تأملياً، إنما هي موقف أخلاقي يرى في التاريخ بصفته مجموع الوقائع الإنسانية مخبراً للأخلاق وبالتالي للسياسة.
لا يُعنى التاريخاني بالحقيقة بقدر ما يُعني بالسلوك، بوقفة الفرد بين الأبطال، التاريخ في نظره هو معرفة علمية أولاً وأخيراً» - ص 16 - وفي رأيه أن المؤرخين الإسلاميين هم أول من سنّوا هذه الاتجاه في الرواية التاريخية.
إن إشكالية معنى التاريخ في رأي العروي تنطلق من تعدد الاتجاهات التي تتنازع على دلالته ووظيفته بين التاريخانية التي تنظر إلى التاريخ الإنساني باعتباره «وحدة تاريخ خالصة» وبين المادية التاريخية التي تعتبره «تطوراً بلا وعي ذاتي»، وبين الاتجاه الطبيعيّ الذي يرى أن التاريخ هو «مجموع مراحل التطور».
وبذلك يصبح لكل اتجاه «تصوره الخاص بالتاريخ» - العروي -.