هادي بن شرجاب المحامض
ما يحدث اليوم في الرياض يبدو وكأنه خطوة عملية نحو تحقيق رؤية طموحة أعلنها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان قبل سنوات عندما قال: (الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة).
هذه الرؤية التي بدت للبعض في البداية أشبه بتطلّع بعيد المنال بدأت تتجسد تدريجيًا على أرض الواقع، حيث أصبح الشرق الأوسط بقيادة السعودية مركزًا للحوار السياسي والوساطة الدولية وصناعة القرار الاقتصادي في وقت يعاني فيه الغرب من أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة.
مشاريع مثل نيوم والقدية وحديقة الملك سلمان وخطط التنويع الاقتصادي إلى جانب الدور السعودي المتزايد في إدارة الأزمات العالمية جميعها مؤشرات واضحة على أن السعودية اليوم لم تعد فقط مصدرًا للنفط، بل باتت لاعبًا في صياغة مستقبل الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية.
نشرت وكالة بلومبيرغ تقريرًا سياسيًا لافتًا يكشف عن تحول جيوسياسي مهم، حيث عُقدت اجتماعات بين مسؤولين أمريكيين وروس في العاصمة السعودية الرياض لمناقشة إنهاء الحرب في أوكرانيا دون أي حضور أوروبي. هذه الخطوة التي وصفتها الصحيفة بأنها مؤشر على تهميش أوروبا، تفتح الباب أمام قراءة أعمق لديناميكيات القوة الدولية المتغيرة، حيث يبدو أن المملكة العربية السعودية باتت تحتل موقعًا جديدًا ومؤثرًا في صياغة الحلول السياسية العالمية.
اللافت في تقرير بلومبيرغ ليس فقط استبعاد أوروبا من هذه المحادثات الحساسة بل اختيار الرياض تحديدًا لاستضافة مثل هذا اللقاء. هذا القرار لم يأتِ من فراغ فالسعودية في السنوات الأخيرة عملت بصبر ودقة على ترسيخ دورها كوسيط دولي موثوق مستفيدة من موقعها الاستراتيجي وقوتها الاقتصادية وعلاقاتها المتوازنة مع القوى الكبرى.
التنسيق السعودي - الروسي ضمن إطار أوبك+ منح الرياض ثقلاً سياسياً في عيون موسكو، التي أصبحت تنظر إلى المملكة كشريك استراتيجي في إدارة أسواق الطاقة العالمية.
في الوقت ذاته تدرك واشنطن أن تجاوز الدور السعودي في الشرق الأوسط أصبح مستحيلاً خاصة مع تزايد الاستقلالية السياسية للمملكة في ملفات دولية وإقليمية معقدة.
بلومبيرغ أشارت إلى أن غياب التمثيل الأوروبي أو الأوكراني عن هذه الاجتماعات ليس مجرد مصادفة دبلوماسية، بل يعكس واقعًا جديدًا يتمثل في انحسار النفوذ الأوروبي في إدارة الأزمات الدولية. هذا التهميش قد يكون نتيجة طبيعية لعدة عوامل: الانقسامات الداخلية بين دول الاتحاد الأوروبي حول طريقة التعامل مع روسيا، والتي جعلت من الصعب تقديم موقف أوروبي موحد وفعّال.
كذلك الاعتماد الأوروبي المفرط على واشنطن في الملف الأوكراني ما جعل القارة العجوز تبدو كشريك تابع أكثر من كونها قوة مستقلة قادرة على صياغة الحلول.
غياب باريس وبرلين عن طاولة الحوار في الرياض أثار استياءً واضحًا خاصة لدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان يسعى لترسيخ دور أوروبي أكثر فاعلية في الأزمة الأوكرانية لكنه وجد نفسه أمام واقع يشير إلى انكماش الدور الأوروبي لصالح تحركات شرق أوسطية جديدة.
الرسالة التي خرجت من هذه الاجتماعات تتجاوز الملف الأوكراني فهي تؤكد أن السعودية باتت لاعبًا دبلوماسيًا دوليًا يُعتمد عليه، ليس فقط في القضايا الإقليمية، بل في الملفات العالمية المعقدة التي كانت في السابق تُدار حصريًا من العواصم الغربية الكبرى.
نجاح المملكة في استضافة هذه المحادثات يعكس ثقة دولية متزايدة في قدرتها على توفير أرضية محايدة وآمنة للحوار. وأن هذا التحول يضع السعودية في موقع تفاوضي جديد يمكنها من التأثير المباشر على مسارات الحلول السياسية لأزمات تتجاوز حدود الشرق الأوسط.
تقرير بلومبيرغ يلمّح إلى أن أوروبا قد تواجه واقعًا دبلوماسيًا مختلفًا خلال السنوات المقبلة. إذا استمر هذا التهميش فقد تجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في سياساتها الخارجية وربما في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط بما في ذلك المملكة من أجل استعادة مكانتها على المسرح الدولي.
في المقابل فإن الرياض اليوم وبمشيئة الله ستحقق رؤيتها وتصبح مركزاً ذا ثقل سياسي جديد في النظام الدولي، حيث تُصاغ الحلول في الرياض الدرعية أو في خيمة بالعلا وليس فقط في واشنطن أو موسكو أو بروكسل.
ما كشفه تقرير بلومبيرغ ليس مجرد خبر سياسي عابر بل نافذة على معادلة دولية جديدة تُرسم خطوطها بهدوء وثبات. يبدو أن العالم يشهد بداية عصر دبلوماسي جديد حيث تتحرك مراكز النفوذ من الغرب إلى الشرق الأوسط، وتحديدًا إلى الرياض التي أثبتت أنها ليست مجرد لاعب اقتصادي بل قوة سياسية قادرة على التأثير في مصير الأزمات العالمية.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل أوروبا مستعدة للتعامل مع هذا الواقع الجديد؟ أم أن انكماش دورها سيستمر لصالح قوى صاعدة تُعيد تشكيل خارطة النفوذ الدولي؟ الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة.