تغريد إبراهيم الطاسان
حينما تقترب أنفاس الزمن من عتبة شهر رمضان، نشعر وكأننا أمام لحظة كونية تتكرر، لكنها لا تشبه سابقتها أبدًا، كأنها موعد متجدد مع الروح، يفتح أبواب السماء لنور يفيض على القلوب، ويعيد تشكيل علاقتنا مع الزمن، ومع ذواتنا، ومع الآخر.
إن قدوم شهر رمضان ليس مجرد تبدل رقمي في التقويم، بل هو حدث كوني تتهيأ له الأرواح قبل الأجساد، وكأن النفس كانت تائهة في فوضى الأيام، حتى جاءها الشهر المبارك ليعيد ترتيب الأولويات ويمنحها فرصة للخلاص من أعباء الحياة المادية.
في عالم يضج بالسرعة، ويطغى فيه الاستهلاك على التأمل، يأتي رمضان ليذكرنا أن الزمن ليس مجرد وعاء للأحداث، بل تجربة وجودية ينبغي أن تُعاش بوعي عميق.
يحفّزنا رمضان عبر أيامه ولياليه، على استثمار الوقت لا في عدّ الساعات، بل في ملئها بما يجعلها أثقل في ميزان المعنى، يدعونا لأن نجعل الطاعة ليست مجرد طقس مكرر، بل حالة وجدانية تتجاوز الشكل إلى الجوهر.
أن نصوم عن الغضب والقطيعة كما نصوم عن الطعام، أن نمنح أعمالنا الصالحة لونًا مختلفًا، أن تكون العبادات بوابة لنهوض جديد، حيث لا تقتصر الطاعات على السجود والركوع، بل تمتد إلى كل فعل خيّر، كل لمسة رحمة، وكل يد تُمد لمحتاج، وكل كلمة تضيء ظلمة الحزن في قلب إنسان.
شهر رمضان هو موسم الابتكار في الخير، حيث لا يُقاس الفضل بكمّ الطاعات التقليدية فقط، بل بكيفية استثمار كل لحظة في بناء معنى جديد للحياة.
ربما يكون العطاء مشروعًا صغيرًا ينمو في زاوية منسية، أو فكرة تنقل البهجة إلى قلب يتيم، أو صلحًا يرمم العلاقات التي هشمتها خلافات الأيام.
في شهر ترتفع فيه الروح فوق نوازع الأنا، يصبح الخير فعلًا جماعيًا، حيث لا يقتصر التنافس على تحقيق المصالح، بل يتسابق الناس نحو الإحسان وكأنهم يخوضون سباقًا نحو النور.
لكن كيف نسمح لرمضان بأن يكون شهر الصفاء إن لم نتحرر من أعباء الاختلاف والضغينة؟
إن الفرحة الحقيقية بالشهر لا تكمن في تزاحم الولائم ولا في زخرفة الأيام بالمظاهر، بل في صفاء القلب واستعادة العلاقات التي كادت أن تندثر تحت ركام المشاحنات.
رمضان هو دعوة للعودة إلى العائلة، إلى جلسات السَمر التي تتنفس فيها الأرواح من تعب الأيام، إلى لحظات الصدق التي لا تعوّضها شاشات الأجهزة، إلى المصافحة الحقيقية التي تسبقها القلوب قبل الأيدي.!
وما قيمة هذا الشهر إن كنا نستقبله مثقلين بالأحكام المسبقة؟ وما فائدة الصيام إن لم يكبح جموح الأنا؟ إن الاحتفال الحقيقي برمضان ليس في تعدد الأطباق، بل في تعدد فرص الصفح، ليس في تكديس العبادات من غير روح، بل في إدراك أن العبادة ليست هدفًا في ذاتها، بل وسيلة لبلوغ إنسانيتنا في أنقى صورها.
رمضان ليس موسمًا يمر، بل محطة يجب أن نغادرها مختلفين، أكثر تسامحًا، أكثر صلة بمن حولنا، وأقل انشغالًا بما يفرّقنا.
هو تجربة وجودية، تمنحنا فرصة لإعادة تعريف علاقتنا بالحياة، فإما أن نمر به كما مررنا بغيره، أو أن نخرج منه وقد وُلدنا من جديد، بقلوب أوسع، وعقول أكثر وعيًا، وأرواح أشد قربًا من المعنى الحقيقي للوجود.