خالد محمد الدوس
أول من صاغ مفهوم الاستهلاك الترفي (علمياً) هو عالم الاجتماع الاقتصادي الأمريكي الشهير (ثورستين فيبلن) عندما نشر كتابه (نظرية الطبقة المترفة) في أواخر القرن (19) وكان يعني به تبذير النقود في شراء حاجات غالية ونادرة لا يستعملها الفرد في حياته اليومية، أي ليس لتلبية حاجات (حقيقية).. غير أن لهذه الحاجات قيمة (مظهرية) تدفع أصحابها إلى التفاخر والتباهي والكبرياء أحياناً...! ينتهج المستهلكون (المتباهون) هذه السلوك للحصول على «مكانة اجتماعية» أعلى.. وهي في حقيقة الأمر (وهم)..!
لا شك أن ارتفاع معدلات الاستهلاك الترفي عند البعض في مجتمعنا السعودي الذي يصل حد الإسراف ومظاهر التبذير يمثِّل مرضاً من الأمراض الاجتماعية - الاقتصادية، فبعض الأفراد ينفق المال على سلع كمالية، وفي مناسبات غير ضرورية بقصد التباهي، وحب الظهور، وتعويض نقص اجتماعي مركب، والإفراط والإسراف في الأكل والملبس والمشرب بصورة تخالف قواعد الضبط الأخلاقي والديني والاجتماعي لدرجة أن حمى الاستهلاك التفاخري طالت حتى أصحاب الدخل المحدود في سبيل مجاراة النمط العام!
لكن الكارثة الاستهلاكية الحقيقية -مع الأسف- ظهرت بوجه أقبح ألوان (التباهي والبذخ والإسراف) من ثلة من فئات المجتمع (تتعولم) بدرجة كبيرة بفعل التقنية وهيمنة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعية، فئة تمارس سلوكاً اجتماعياً مستهجناً، ومستعرض يحمل نمط (الهياط الاجتماعي) في قالب الاستهتار بالنعم وكسر معايير المجتمع الأصيلة وقيمه الدينية الفضيلة مثل ما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعية من مقاطع الفيديو من صور الإفساد بالمال والإسراف في النعم كمقطع غسل اليدين بدهن العود أو السمن، والمبالغة في الضيافة والتحول من الكرم إلى التبذير.. وغيرها من مقاطع الجهل المركب والاستهتار والإسراف المذموم الذي لا يقبله دين ولا عقل.
هذه الممارسات المناهضة، والسلوكيات، تحمل في باطنها دلالات وأشياء مزيّفة لا تعبر عن الجوهر، بل المظهر، والكارثة الأسوأ عندما يصل الاستهلاك التفاخري، أو الهدر البهرجي حد الهوس والمرض، ومن طبقة ليست بطبقة مخملية! ساعتها يصبح هذا النمط (برستيج البسطاء)، وفي السنوات الأخيرة أصبحت العقلية الاستهلاكية المتباهية هي الثقافة المهيمنة على سلوك وفكر وممارسات بعض أفراد المجتمع في ظل ضعف الوازع الديني، وغياب الوعي الاستهلاكي الرشيد.
مع أن قضية الوعي في ترشيد الاستهلاك وضبط توازنه تجاوزته معظم المجتمعات المتحضرة والشعوب المتفتحة.
ونحن مع الأسف في قضيتنا مع الوعي نأخذ فقط القشور التي تكشف عمق أزمتنا الثقافية مع الوعي أما أرباب (الهياط الاجتماعي) فسلوكهم الاستهلاكي الترفي وتفاخرهم المرضي ينم عن نقص اجتماعي ونفسي مركب ناتج عن صراعات داخلية لغرائز دفينة وقمعية كما يقول علم الاجتماعي النفسي، كما يمكن إرجاع مثل تلك التصرفات الشاذة والممارسات المناهضة لقيم الدين الإسلامي ومعايير المجتمع الأصيلة، إلى خلل وظيفي في التنشئة الاجتماعية وعملياتها، النفسية والتربوية والأخلاقية والفكرية والدينية والعقلية، منذ الصغر، كما أن من العوامل المؤدية إلى ظهور مثل تلك المسرحيات الترفيه، والمسلسلات التفاخرية، العامل الثقافي المتمثّل في التطور التكنولوجي، وبالذات مع ظهور وسائل وشبكات التواصل الاجتماعي التي شجعت وحفزت على قيام بعض (السفهاء) بمظاهر المباهاة والتفاخر الجاهلي في البذخ والتبذير والإسراف ونشر مقاطعهم الزائفة بحثاً عن الطريق الأقصر لإشباع رغباتهم الرخيصة والأسهل للصعود لسلم الشهرة والتباهي الانهزامي أمام الرأي العام الاجتماعي.
وحتى لا تتسع دائرة الهياط الاجتماعي وتتفاقم قضية الاستهلاك التفاخري وانتشار حالاتها المرضية في نسيجنا المجتمعي ينبغي التصدي لهذه الأزمة الثقافية الاجتماعية برفع سقف الوعي الاجتماعي وتنوير الرأي العام بخطورة التباهي بكفر النعم وانعكاس القضية على البناء الاجتماعي ووظائفه من خلال تفعيل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية بدءاً من أهم ركيزة تربوية الأسرة مروراً بالمؤسسات التعليمية والتربوية وكذلك المؤسسات الإعلامية والثقافية وأخيراً المؤسسات الدينية التي تلعب دوراً محورياً وحراكاً تنويرياً في توعية المجتمع نحو آثار كثير من الظواهر والمشكلات الاجتماعية الخطيرة ومنها قضية المباهاة والكفر بالنعم وخصوصاً أن تأثير المؤسسات الدينية من خلال المنابر الإعلامية وخطب الجمع في إيصال المضمون والتوجيه والمحتوى التوعوي أكثر من تأثير الإذاعة والتلفاز مع ضرورة ردع مثل هذه الممارسات الجاهلية بسن أنظمة وقوانين صارمة تجرِّم سلوكيات التبذير والإسراف والتباهي الاستهلاكي الترفي.. المرفوض» شرعياً وقيمياً واجتماعياً وحضارياً».