د.عبدالله بن موسى الطاير
غضب الدبلوماسية كلفته غالية، ولذلك غالبًا ما تخفى التفاصيل الحادة خلف الأبواب الموصدة، والابتسامات الصفراء أمام الكاميرات. عدم إشراك الرأي العام في لحظات الغضب والنقاشات الحادة والشتائم المتبادلة بين رؤساء الدول والحكومات، يعطي للدبلوماسية مجالا للتحرك واحتواء الخلافات غير المعلنة أيا كانت حدة الانقسام فيها، أما مشاركتها مع الجماهير فإن ذلك يجعل مهمة رأب الصدع شبه مستحيلة، وتتطلب جهودا كبيرة ووقتا أطول. سجّل التاريخ حوادث شهدت توترات علنية ونقاشات حادة بين قادة الدول، وحكت المذكرات والشهود روايات عن اجتماعات يمكن اعتبارها من بين الأسوأ.
فعلى مسافة زمنية قريبة من نهاية الحرب العالمية الثانية، عقد مؤتمر باريس للسلام عام 1919م في ظروف متوترة، وتحولت المناقشات إلى مبارزات حادة بسبب الخلافات حول معاهدة فرساي، مما حدا برئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو إلى وصف الرئيس الأمريكي ويلسون بأنه «مثالي ساذج»، فكان أن رد باتهام كليمنصو بأنه يكرس دوافع الانتقام بدلاً من مناقشة إمكانية السلام، وقد شهد المؤتمر خلافات حادة لدرجة هددت الاجتماعات بالانهيار، لكنها مع بعض الصبر، ولأنها بين القادة أنفسهم، وبتدخل من رئيس الحكومة البريطانية ديفيد لويد جورج اعتمد المؤتمر في النهاية معاهدة فرساي المثيرة للاهتمام والجدل.
وخلال احتدام الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، ومن على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة 1960م، ألقى الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف خطابًا استفزازيًا ضد الغرب، وفي لحظة دراماتيكية، نزع حذاءه وضرب به على منصة الإلقاء كما تؤكد بعض الروايات، وتحولت الجلسة إلى فوضى مع تبادل الشتائم والتهم بين الوفود، مما جعلها واحدة من أكثر لحظات الأمم المتحدة رعبا.
وليست المرة الأولى التي يصطدم فيها الرئيس ترامب والرئيس زيلينسكي فقد حدث لقاء عاصف بين الطرفين عام 2019م في نيويورك بسبب مكالمة هاتفية سابقة بين الرجلين. وبخلاف ما حصل مؤخرا فقد احتدم النقاش خلف الكواليس، ولكن على الرغم من أن اللقاء العلني لم يشهد شتائم مباشرة، فإن التوتر كان واضحًا، حيث دافع زيلينسكي عن موقفه بينما واجه ترامب اتهامات باستغلال المساعدات العسكرية للضغط السياسي، مما أدى إلى نقاشات حادة في الأوساط الدبلوماسية.
وحتى لا نذهب بعيدا، فإن القمم العربية هي الأخرى شهدت حوارات حادة بين القادة، وتخللتها شتائم وتهم، وبخاصة في القمة العربية التي أعقبت احتلال العراق للكويت عام 1990م، والقمة العربية في بيروت عام 2002م. ولأن القضية الفلسطينية كانت دائما الموضوع المتفق المختلف عليه، فإن المقاربات التي هدفت إلى تقديم حلول قد تحولت إلى ساحة للصراع اللفظي بين القادة ومن ذلك قمة فاس 1981م. وفي مكان قصي عن الشرق الأوسط كانت القضية محل نقاش حاد في كامب ديفيد عام 2000م بين الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، وبدلا من التوصل إلى سلام نهائي، تحولت إلى مواجهات لفظية حادة، حيث اتهم باراك عرفات بعدم الجدية، بينما رد عرفات باتهامات لإسرائيل بالتعنت، وحينها فقد كلينتون أعصابه وصرخ في عرفات، مما جعل القمة تنتهي بفشل ذريع.
في كثير من الحالات، لا يتم الكشف عن الشتائم الصريحة علنًا، لكن الروايات اللاحقة من مسؤولين أو مذكرات تكشف حدة النقاشات خلف الكواليس، وغالبا ما تكون تلك النوعية من الاجتماعات الملتهبة نتيجة أزمات كبرى كالحروب، والنزاعات الحدودية، أو التنافس الأيديولوجي. غضب الدبلوماسية الجماهيري أصبح واحدة من الأدوات الشعبوية، حيث يستخدمها بعض القادة دون تفكير في آثارها الجانبية.