د. غالب محمد طه
في مقالاتنا السابقة، بدأنا نلاحظ كيف تؤثر التكنولوجيا بشكل متزايد على حياتنا. بدأنا بالتساؤل: هل هذه التكنولوجيا استعمار جديد؟ وكيف تؤثر على سلوكياتنا وقراراتنا اليومية؟ اليوم، نواصل هذا الحوار ونتناول تأثير الأنظمة الذكية على اختياراتنا الشخصية والمهنية، وكيف يمكننا استعادة جزء من استقلالنا في هذا العالم الذي تسيطر عليه الخوارزميات.
لنأخذ مثالًا بسيطًا: الهواتف الذكية. في البداية، كانت وسيلة للتواصل فقط، لكن مع مرور الوقت، أصبحت بوابة لعالم لا نهاية له. الإشعارات التي تصلنا بشكل مستمر ليست مجرد تنبيهات عابرة، بل هي جزء من استراتيجية مدروسة لجذب انتباهنا بشكل دائم. الدراسات أظهرت أن هذه الإشعارات ترفع مستويات التوتر والقلق، مما يعيق قدرتنا على التركيز والإبداع.
لكن تأثير التكنولوجيا لا يتوقف هنا. هل لاحظت كيف تتحكم الخوارزميات في قراراتنا دون أن ندرك؟ على سبيل المثال، عند التسوق عبر الإنترنت، نختار منتجات بناءً على الإعلانات التي تتابع سلوكنا. هذه الإعلانات تجعلنا نعتقد أننا نريد شيئًا ما، لكن في الواقع، هي مجرد خوارزميات توجه رغباتنا. غالبًا ما نكتشف هذا التأثير بعد فوات الأوان.
إضافة إلى ذلك، هناك تأثير منصات التواصل الاجتماعي. هذه المنصات، التي تعتمد على خوارزميات معقدة، تعرض لنا محتوى يتناسب مع اهتماماتنا. ولكن هذا لا يعني أننا نرى الصورة الكاملة. نحن محاطون بما يُسمى «العزلة المعرفية»، حيث تقتصر المعلومات التي نراها على اهتماماتنا الحالية فقط، مما يعزز الانقسام الاجتماعي والفكري. نحن نعيش في عالم تتعزز فيه قناعاتنا بدلاً من أن تُختبر أو تُنتقد، مما يؤدي إلى زيادة الاستقطاب في المجتمع.
إذاً، ماذا يمكننا أن نفعل في هذا الوضع؟ هل ما زلنا نمتلك القدرة على اتخاذ قراراتنا بحرية، أم أن التكنولوجيا هي التي تفرض علينا اختياراتنا؟ الحلول الفردية، مثل تخصيص أوقات معينة لاستخدام الهواتف الذكية أو تقليل الإشعارات، قد تكون بداية جيدة. لكن هذه الحلول قد لا تكون كافية إذا استمرت الشركات الكبرى في تطوير خوارزميات تجعل من الصعب التخلص من تأثيراتها.
الحل يكمن في إيجاد توازن حقيقي بين استخدام التكنولوجيا وحماية حرية اختياراتنا. يجب أن نعمل على فرض قوانين تنظم كيفية عمل هذه الأنظمة الذكية، وندعو الشركات إلى أن تكون أكثر شفافية في استخدام بياناتنا الشخصية. كما يمكن أن يكون التعليم الرقمي خطوة مهمة لمساعدة الأفراد على مقاومة تأثير هذه التقنيات في حياتهم اليومية. من خلال نشر الوعي، وبتحفيز التفكير النقدي، يمكننا أن نعيد للناس القدرة على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
في النهاية، نعيش في عصر لا تُحدد فيه خياراتنا دائمًا من خلال اختياراتنا الشخصية، بل من خلال تأثيرات خفية تتحكم فيها خوارزميات قد لا نكون على دراية بها. التحدي الأكبر اليوم هو أن نعيد التوازن بين استخدام هذه الأدوات وبين الحفاظ على قدرتنا على التفكير بحرية. هذا التوازن يتطلب منا ليس فقط مقاومة التأثيرات الخارجية، بل أيضًا البحث المستمر عن الأدوات والسياسات التي تضمن لنا أن نبقى صناع قراراتنا في هذا العصر الرقمي المتسارع، فلنعمل معًا على ضمان حماية حقنا في اتخاذ قراراتنا بأنفسنا، والعيش في عالم حيث تكون اختياراتنا هي ما يحدد مسارنا، لا الخوارزميات الخفية. وبالله التوفيق..