مشعل الحارثي
في وسط الضجيج ورغاء الزبد وزمجرة الرعد ووسط كل تلك الصور المغلوطة التي تتنازع الفضاء وتختطف الأدمغة وتسعى لتشويه الحقائق وتقفز على الواقع تبقى المملكة العربية السعودية بقيادتها الرشيدة وشعبها الأصيل وتاريخها العريق صلبة أبية متمسكة بقيمها وفية لمبادئها وتردد على الملأ أنشودتها الوطنية المعبرة عن حقيقتها وسر تفردها (بلادي بلادي منار الهدى.. ومهد البطولة عبر المدى) ولتسمع كل من به صمم ومن تاهت بهم الدروب واستوطنتهم الخيالات الجامحة وضخامة الذات الفارغة، وانغمسوا في الوعي واللا وعي مجوناً وجنوناً وغطرسة بأنهم يقفون أمام وطن هو الطوق والطريق والنفس والنفيس، ونور اليقين، والتاج فوق الجبين، وغصن الزيتون والياسمين، والمسافة ما بين الوريد والشرايين، وما باحت به السماوات ورفت به أفئدة المصلحين والرسل والنبيين.
وطن هو أمانة الله لأهل هذه الديار، وهو قبلة ومقلة ونخلة وسنبلة، وفرض ونافلة وآية مرتلة، وهو الصورة المثلى لوطن يزرع الحلم طموحاً متقداً، وهو العهد والوعد والسند والوتد الماضي في الأمد، وحبل من مسد لكل من يسعى لزعزعة وحدتها وأمنها ويمس أراضيها الطاهرة بسوء.
هذا الوطن الذي قبل أن ينطلق في مسيرته المباركة وبناء الكيان وتحقيق المعجزات والمنجزات وحصد التفوق والنجاح أرسي قيماً هي حجر الزاوية والأساس الحقيقي للبلاد وكانت وستظل هي المدار والمسار وصمود الرجال الأخيار، وسائداً يسود بعدل السيادة ونبل القيادة. وسيجد من يستدعي التاريخ ويقرأ التفاصيل بكل تجرد وحيادية وموضوعية بأن هناك العديد من العوامل التي أسهمت في تعزيز مكانة المملكة العربية السعودية ومنحتها القوة والاستقرار الداخلي وجعلت لها حضورها الدولي وتأثيرها السياسي وفي مقدمتها:
- أنها أعطت المكان متطلباته وحقه الطبيعي وقدسيته بوجود أطهر بقعتين مقدستين في الكون على أراضيها مكة المكرمة والمدينة المنورة، فجعلت من الدين الإسلامي وتعاليم الشريعة السمحة منهجاً وركيزة أساسية تتعامل بها في كافة شؤونها وأحوالها، هذا الدين الذي منح الفرادة وحقق السيادة فكرم الإنسان وخلقه في أحسن تقويم وكفل له حقوقه وصان له ماله وعرضه ونسله وعقله، واحتفى بالحياة وكل ما فيها روح من إنسان وحيوان ونبات وحرم التعدي عليها وجعل في المحافظة عليها إحياء للحياة كلها فمن قتلها فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. ولا جدال بأن البون شاسع وكبير جداً بين تعاليم وضعها رب السماء لتيسير وتنظيم شؤون الحياة والأحياء وبين دساتير وقوانين ومعاهدات أهل الأرض، إضافة لاعتمادها على مبدأ الشورى كإحدى سلطات الدولة وأهم المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام.
- ما حملته المملكة على عاتقها من رسالة سامية لإرساء الأمن والسلام والعدالة والمساواة والإنسانية وخدمة محيطها الخليجي وأمتها العربية والإسلامية التي ظلت وفية لها وقدمت لها كل نصرة ودعم وعون ومساعدة ولم تتظاهر وتتفاخر في يوم من الأيام بهذه المنح والعطايا، لكونها تنطلق من بديهة أننا أمة واحدة، بل امتدت أياديها البيضاء وشملت أفراد الإنسانية في كل مكان بعيداً عن التصنيفات والأجناس والديانات والطبقات، وكانت دوماً المبادرة والوسيط الفاعل في حل العديد من القضايا والنزاعات والأزمات.
- أنها سخَّرت ثرواتها وكل ما وهبها الله من خيرات وقوة اقتصادية وما تتميز به من مناعة تجاه الانعكاسات السلبية للتغيّرات الاقتصادية لخدمة المواطن ورفاهيته وتعزيز مسيرة البناء والتنمية مستندة في ذلك إلى ما تتمتع به من رؤية واضحة وبعد نظر وما تنتهجه من سياسات اقتصادية حكيمة ومتوازنة تراعي العام والخاص على حد سواء.
- ما يتمتع به شعبها من نسيج اجتماعي سليم بالفطرة يمثِّل نموذجاً مختلفاً متديناً وملتزماً ومؤتلفاً ومتشبعاً بروح الأسرة الواحدة وأخلاق القبيلة ومنابع الفضيلة والقيم العربية الأصيلة والشجاعة والصولات الجزيلة. وقدرته على التأقلم التام مع معطيات الأصالة والمعاصرة بعد أن استوعب لغة العصر وسار في ركاب المستقبل بكل ثقة واقتدار.
- ومن ضمن منهج المملكة المعلن والواضح وثوابتها الراسخة التي لا تحيد عنها رفضها القاطع بأن يتدخل أحد في شؤونها الداخلية أو يملي عليها شروطه وأجنداته أياً كانت، كما أنها لا تقبل في الوقت ذاته أن تتدخل هي في شؤون الآخرين احتراماً وتقديراً لمفهوم حق سيادة الدول على أراضيها وممتلكاتها.
وكل هذه العوامل مجتمعة جعلت من المملكة العربية السعودية وعبر أدوارها المختلفة موطن الأمن والأمان والمهابة والسيادة، ووطن يتوهج عطاء ويبهج سخاء، وسيظل النشيد الأبقى العازف لحن الوجود والخلود مكللاً بفجر الأيام وفجر الأحلام، تحرسه القلوب وتحيط ملوكه وقادته الكرام ورجاله المخلصين وشعبه الوفي رعاية الله وحفظه وعينه التي لا تنام.