عبدالوهاب الفايز
مع شهر رمضان المبارك تستعد الجمعيات الخيرية ومعها المؤسسات المانحة ومجالس الأوقاف للتوسع في أعمال البر والخير، وأيضا يصاحب ذلك مبادرة الكثيرين إلى إخراج زكواتهم في هذا الشهر الفضيل، ولهذا تسعد الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات وتلقي المساعدات. وفي الأعوام الأخيرة ارتفعت الأموال الموجهة للبرامج الخيرية في المملكة الذي ساعد على نمو التمويل تطور القطاع غير الربحي، بالذات تطور البرامج النوعية وأدوات وآليات التنظيم والتشريع، خصوصا ما يضبط الجانب المالي سواء ما يخص كفاءة الإنفاق، أو ما يعالج جمع التبرعات، أو الصرف على الأنشطة والبرامج.
وارتفاع الثقة بالقطاع ونمو التدفقات المالية من التبرعات والدعم المباشر وغير المباشر يعود إلى تعزيز الصورة الذهنية للقطاع. في تقرير لمؤسسة الملك خالد عام 2023م الذي يرصد حالة القطاع أشار إلى هذا الجانب. فالصورة الذهنية عن القطاع غير الربحي توثر على تفاعل المجتمع وصناع القرار معه؛ وحسب التقرير تعد السمعة الإيجابية «حجر الاساس لحصول القطاع على الدعم الذي يحتاجه لتشغيل أنشطته»، والأهم من ذلك تعد السمعة الحسنة الدافع الرئيس لانضمام المزيد من أفراد المجتمع له سواء عن طريق العضوية أو التطوع أو العمل، أو حتى حين اتخاذ قرار تأسيس المنظمات غير الربحية.
وتطرق التقرير إلى أهمية تصدي القطاع لمعالجة انتشار الانطباعات المغلوطة عنه عبر «بث الرسائل والحقائق الصحيحة»، فهذا أمر مفيد ويتطلب نفسا طويلا وخططا بعيدة المدى مع مختلف أطراف المصلحة. ويبدو أن حرص الكيانات الجديدة مثل مجلس الجمعيات الأهلية، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي إلى المبادرة المستمرة لإيضاح الحقائق عن أوضاع القطاع ومساهماته يساعد في تعزيز الثقة به. وهذا ما رصده تقرير مؤسسة الملك خالد الذي وجد، وعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية فقط، ارتفاع في ثقة المجتمع في القطاع غير الربحي في عام 2022م مقارنة بعام 2017م، إذ انخفض انعدام الثقة في نزاهة المنظمات غير الربحية من 28 % في عام 2017م إلى 11 % بين أفراد المجتمع اليوم».
وفي هذا السياق نرى أهمية صدور بيان (مجلس الجمعيات الأهلية) الأخير لإيضاح مكانة ودور القطاع غير الربحي في قيادة العمل الإنساني والاجتماعي في المجتمع السعودي، بالذات إيضاح سلامة وكفاءة الإجراءات والضوابط المالية المطبقة لجمع وتلقي التبرعات المالية والعينية. فقد أكد المجلس في بيانه الإعلامي التزام الجمعيات الأهلية السعودية بالأنظمة واللوائح المنظمة لعملها، مؤكدا على أهمية دورها في جمع التبرعات الخيرية وفق الضوابط التي تضمن الشفافية والحوكمة. أيضا ورد في البيان الإشارة إلى أن الجمعيات الخيرية تعمل ضمن بيئة تشريعية واضحة، وفقا لنظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وتخضع لرقابة مستمرة من الجهات المختصة لضمان الامتثال لمعايير الحوكمة الرشيدة، مثل الشفافية والإفصاح والسلامة المالية، وأشار إلى تقرير منظمة العمل الدولية الذي صنف المملكة بدرجة عالية في مجال السلامة المالية والالتزام بالأنظمة.
وفي بيانه لم ينس المجلس الإشادة بدور (المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي) في الإشراف على عمليات جمع التبرعات، وإطلاق خدمة «تبرع بأمان» التي تتيح توثيق عمليات التبرع عبر رمز الاستجابة السريع (QR Code) المرفق بوثيقة الترخيص، مما «يضمن وصول التبرعات إلى مستحقيها بموثوقية وشفافية، حاثا المجلس المتبرعين على استخدام المنصات المعتمدة لضمان الامتثال للضوابط الرسمية».
كذلك أبرز البيان الإنجازات التي حققها القطاع غير الربحي في المملكة، ولا سيما في مجالات الصحة والتعليم والرياضة، مؤكدا أن الجمعيات الأهلية تعمل بالتكامل مع القطاعين الحكومي والخاص لتحقيق أهداف رؤية 2030 وتعزيز التنمية المحلية والتكافل الاجتماعي.
والتطور النوعي في الحوكمة انعكس على التبرعات والدعم المالي للجمعيات، وآخر البيانات المتاحة تشير إلى أن إيرادات منظمات القطاع غير الربحي في عام 2023م بلغت نحو 54.5 مليار ريال، مسجلة ارتفاعا بنسبة 33 % مقارنة بالعام السابق، وزيادة قدرها 576 % خلال ستة أعوام. والإصلاحات القانونية والتنظيمية من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ساعدت على إصدار قوانين جديدة تشجع الشفافية والمساءلة، وتسهل التعاون بين القطاعين العام والخاص في المراقبة والمتابعة لكفاءة الإدارة والإنفاق وجمع التبرعات، ومحاربة غسل الأموال.
ومن تجربة شخصية مع عديد من الجمعيات الخيرية والمؤسسات المانحة التي عملت فيها أو ما زلت عضوا عاملا فيها، أجزم بأن الجمعيات الخيرية تعمل في بيئة تتسم بالحوكمة العالية التي تستهدف ضرورة الشفافية والإفصاح في كل تعاملاتها المالية. وربما نقول إن الإجراءات تشددت وتوسعت كثيرا في هذا الجانب المرهق والمكلف للعاملين فيها، ولكن هنا نجد العذر الفني والشرعي للجهات الرقابية، فهذا التشدد له أثره الإيجابي على دعم القطاع وتمكينه ورفع كفاءة الادره، وأيضا لتحقيق المسؤولية الدينية تجاه حفظ الأموال.
طبعا لا يمكن الجزم بالانضباط المالي الكامل، فالأمور المالية معرضه لسوء التدبير وللخلل الأخلاقي، وهيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) ما زالت تعلن شهريا عن مباشرة التحقيق في مئات الحالات للفساد وتجاوز الأنظمة رغم شدة وصرامة الإجراءات المطبقة في القطاع العام.
والجبهة التي تحتاج المعالجة، بعد ضبط حركة الأموال في الجمعيات الخيرية، هي ضرورة مراقبة الأموال التي تدفع في المساجد على محترفي التسول. هؤلاء ما زالوا، مع الأسف، يتواجدون بصورة تتعدى المخاطر المالية إلى: الإساءة لصورة مجتمعنا! فكثرة المتسولين والمتسولات واستخدام الأطفال يتطلب من وزارة الشؤون الإسلامية التحرك الجاد لمحاصرة هذه الظاهرة المزعجة للمصلين ولسمعة بلادنا.
مجلس الوزراء عام 1443هـ منع التسول بكافة صورة وأشكاله مهما كانت مسوغاته مع إيجاد عقوبات رادعة وواضحة بحق مرتكبيه. ونصت المادة الثانية من نظام مكافحة التسول على التالي: (يحظر التسول بصورة وأشكاله كافة، مهما كانت مسوغاته. تختص وزارة الداخلية بالقبض على المتسولين). الآن في الجوامع - على وجه الخصوص - ما أن يفرغ الإمام من الصلاة حتى تنطلق أصوات المتسولين من جوانب المسجد لعرض حاجاتهم المعروفة والتي حفظها المصلون. وطبعا الناس مدفوعة بحب المساعدة والتعاطف مع الحاجات الإنسانية لا يترددون في تقديم الأموال لهؤلاء. وهنا يبقى السؤال حاضرا: من يضمن أن هذه الأموال تذهب إلى مستحقيها؟ (الملاحظ أن جميع المتسولين من غير السعوديين وفي الأغلب من جنسية عربية واحدة!).
وزارة الشؤون الإسلامية يمكن أن تعالج هذه المشكلة عبر اتخاذ إجراءات عملية مثل: تفعيل دور الإمام والمؤذن ومن يقومون بخدمات الأمن والنظافة، فالمعروف أن أغلب المساجد الكبرى لديها القدرة على مكافحة التسول عبر منع المتسولين من الدخول للمساجد. أو عبر إبلاغ الجهات المختصة بمكافحة التسول. كذلك يمكن أن تبادر إلى وضع لوحات عند المداخل تتضمن الإشارة إلى أن الأنظمة تمنع التسول وتمنع تقديم الأموال. مع وضع أرقام التواصل المعتمدة من الجهات الحكومية أو الجمعيات الخيرية للتعامل مع الحالات التي يعرضها المتسولون والمتسولات، سواء المرضية، أو حالات العجز المالي.
هنا تجب الإشارة إلى أن الوزارة سبق ان طلبت قبل ثلاثة أعوام من منسوبي المساجد منع المتسولين في الجوامع والمساجد والساحات الخارجية المحيطة بها، وأرسلت تعميما لكافة خطباء وأئمة المساجد بعموم المملكة بعد إقرار نظام مكافحة التسول. المطلوب من الوزارة الانتقال إلى خطوات عملية لمنع التسول ومنع جمع الأموال، وليس التعميم فقط. المساجد هي الجبهة التي ما زالت مكشوفة وهي أحد مسارات جمع الأموال.. بعد أن تم ضبط الجمعيات الخيرية وحوكمة عملها.