د.شريف بن محمد الأتربي
تدق أجراس الساعة الحائطية ذات الصوت المميز لتعلنها تمام العاشرة صباحاً يرتدي ممدوح بدلته الأنيقة، ويضع عطره المميز الذي لم يغيره طيلة 70 عاماً، فقد قارب عمره على منتصف العقد التاسع، ولا يزال العطر هو نفسه لم يغيره أبداً ولو مرة واحدة من قبيل التجربة، يهبط درجات سلم العمارة ببطء فقد وهن العظم واشتعل الرأس شيباً، يسير بهدوء ووقار كأنه باشا من زمن ماض وولى، يلقي السلام على جيرانه وأصحاب المحلات التي بجواره إلى أن يصل إلى حديقة جروبي، وهناك ينزوي بنفسه وطاولته التي لم يغيرها منذ جلس عليها لأول مرة هو وأمال، نفس الطاولة نفس المشروب نفس قطعة الحلى وربما هي نفسها الأطباق والكاسات، يتقدم منير من ممدوح بك ويلقي عليه تحية المساء وبدون أي سؤال آخر يعود مسرعاً بقطعتي جاتوه وكأسين من العصير وكأسين من الماء، يظل ممدوح بك في مكانه منذ يصله وحتى الرابعة عصراً، يطالع في المقعد الممتد أمامه، يهمس ببعض الكلمات، يقطع قطعة الجاتوة في الطبق الثاني إلى قطع صغيرة ولا يقربها أبدا فهذه القطع والعصير والماء هي لأمال، حب العمر كله، رفيقة سنوات الحياة الماضية والقادمة، أمال وهي فعلاً آمال، آمال لم تتحقق قط، فمنذ أكثر من ستة عقود وهو ينتظر أن تحضر أمال ولكنها لم تحضر ولن تحضر، أمال ابنة الجيران صاحبة الوجه الجميل والشعر الأشقر الذهبي، فاتنة الحي والمدرسة والجامعة، لم يرها أحد أو يجالسها إلا وقال فيها من القصائد وصفا، تمناها الجميع زوجة لهم، ولكنها اختارت ممدوح الشهم الجدع اختارته لأنها لم تر رجلاً آخر في حياتها، رجل بمعنى الكلمة، فهي بنت وحيدة لأمها فقدت أباها في حادثة غريبة حين كان يتفقد مسدسه الميري لتخرج منه رصاصة تودي بحياته، ولم تتزوج والدتها مرة أخرى ونذرت حياتها لأمال، لم يقصر معهما الجيران أبداً حتى والد ممدوح أوصاه بالحرص على تلبية متطلباتهما فهو يكبرها بست سنوات عمرية وستون في الرجولة، كان الحب بريئاً بينهما لم يعكره شيء أبداً حتى الخلافات العادية بين المحبين لم تحدث بينهما نهائيا، فهما روحان في جسد واحد، ومع نهاية السنة الرابعة الجامعية لممدوح تقدمت والدته بطلب يد أمال له لم يستغرق الأمر سوى ثوان قليلة لترفع والدة أمال ووالدة ممدوح أصوات الزغاريد مباركة لهما هذا الارتباط، وبدأ مشوار الفرح خطوة بخطوة، وتم الاستعداد للزفاف، كان اللقاء يوميا بينهما في نفس المكان من حديقة جروبي وقبل الفرحبيوم واحد اتفقا على المقابلة النهائية ليودعا أحلى سنين عمرهما التي شهدت كل أنواع العواطف الجياشة من ضربات قلب متسارعة حين أباح لها بحبه لأول مرة ودموع فرح حين وافقت العائلتان على الزواج، وفي هذا اليوم لم تحضر أمال، اختفت وكأنها لم تكن موجودة أصلاً، بحث عنها في كل مكان يعرفه وحتى الذي لا يعرفه وصل إليه ليكرر نفس السؤال: حد شاف أمال؟ ويأتيه نفس الرد: أبداً ولا نعرف عنها حاجة، ومنذ ذلك اليوم وهو يتردد على طاولتهما في حديقة جروبي يومياً لعلها يوما تعود ولكنها لن تعود.