نجلاء العتيبي
تجلس في ركن بعيد، عيناها غارقتانِ في أمواج الأفكار التي تُخفيها عن العالم.
بدا وجهها وكأنه يحمل سنواتٍ من التعب رغم صغر سنِّها.
تساءلتُ: كيف يمكن لطفلة أن تحمل كلَّ هذا الصمت؟ كيف يصبح الفرح الذي كان يملأ عينيها شاحبًا إلى هذا الحد؟
الطلاق، تلك الكلمة التي تأتي بأثقالها الجارحة، في ظاهرها قرارٌ يُتَّخذ بين الكبار، لكنها في الحقيقة تقسم حياة الأبناء إلى نصفينِ.
تتحوَّل الحياة إلى مسار مليء بالأسئلة التي لا إجابة عنها.
(لماذا حدث ذلك؟ هل أخطأتُ؟ من المذنب؟).
أسئلة قد لا تُقال، لكنها تعيش داخلهم تهدم شيئًا في أعماق نفوسهم، شيئًا لا يُرمَّم بسهولة.
كانت تجلس بملامحها الصغيرة الحزينة، لكن الألم الذي تحمله بدا أكبر من عمرها.
الطلاق حين يمسُّ الأطفال لا يأخذ منهم لحظة، إنه يسلب منهم شعور الأمان الذي كانوا يتنفسونه، يتحوَّل العالم الذي كانوا يعرفونه إلى مشهد غريب تتفرَّق ملامحه بين منزلينِ، بين قلبينِ كانا متصلينِ يومًا.
لعل أقسى ما يمرُّ به الأبناء هو شعورهم بأنهم باتوا أشبه بجسرٍ بين طرفينِ، يحملون رسائل غير مكتملة، ويشعرون بثقل محاولات الحفاظ على التوازن بين والدينِ فقدا الانسجام. وربما دون قصدٍ يتحوَّلون إلى أدوات لتصحيح أخطاء لم يصنعوها، وكأنهم مسؤولون عن إعادة ترتيب كلِّ الذي انهار من حولهم.
الطفلة الحزينة التي تجلس أمامي لا تنطقُ، لكن عينيها تنطقانِ بما لا يُقال، نظراتها تحمل عتابًا للعالم الذي لم يسأل عن شعورها، عن أحلامها التي تهدَّمت، وعن ألعابها التي باتت تفتقد دفء الأوقات التي تجمع بين والدينِ تحت سقف واحد.
أثر الطلاق على الأبناء يمتدُّ كظل ثقيل يرافقهم في تفاصيل حياتهم.
بعضهم ينغلق على نفسه؛ خوفًا من إعادة فتح جروح جديدة، آخرون يحاولون بناء جدران من اللامبالاة، لكن في الداخل يعيشون صراعات لا تنتهي.
في واقعهم المتصدِّع يسعى الأبناء لإعادة بناء معنًى جديدٍ للحياة.
كيف لهم أن يتعلَّموا الثقة مرة أخرى إذا كانت أُولى خطواتهم نحو العالم قد اهتزَّت بفعل قرارات لم يتخذوها؟ الطلاق يزرع في نفوسهم خوفًا من أن كل شيء جميل قد ينكسر فجأةً.
الأبناء في عالم الطلاق يحتاجون إلى شيء
لا يُطلب عادةً: إلى أن يُسمعوا، إلى أن يُقال لهم إنهم ليسوا وحدهم.
يحتاجون إلى وقت طويل كي يُعيدوا بناء ثقتهم في المستقبل المستقر.
والدعم هنا لا يُقاس بالماديات أو العطايا، بل يعني أن يروا العطف في أعين من حولهم، أن يشعروا أن هناك من يحتضن جروحهم الصغيرة والكبيرة، أن يفهموا أن الألم ليس دائمًا نهاية الطريق، وأنه يمكن للشرخ أن يتحوَّل إلى درس يُبنى عليه.
عدتُ بنظري إليها، إلى حزنها الصامت الذي يروي ألف حكاية، أدركت أن ما تحتاجه ليس عالمًا مثاليًّا، بل يدًا حانية تمتدُّ إليها، وصوتًا صادقًا يقول لها: (أنتِ لستِ وحدكِ، وكل هذا سيمضي).
فكيف إذا اجتمع العالم على دعم هؤلاء الأطفال؟ كيف إذا باتت قلوبنا مستعدَّة لسماعهم دون إصدار أحكام؟ ربما وقتها يمكنهم أن يروا أن ما مرُّوا به لم يكن إلا مرحلة، وأن الحياة لا تزال تحمل لهم فرصًا للفرح والأمل.
ضوء
الطلاق يعصف بعالم الأبناء، فيزرع في نفوسهم شعورًا بالضياع والأسئلة المرهقة، لكنه أيضًا فرصة لتعليمهم الصمود إذا وجدوا الحب والاحتواء من حولهم.